حلم أم علم ( قصة عن ليلة القدر)
تأليف : وئام عبد الغفار
رغم العمر وقد أقترب عقدي الخامس علي
الانتهاء إلا أنها مازالت هذه الليلة عالقة في خيالي ووجداني .. عندما كنت في
صبايا .. لم أتجاوز التاسعة من العمر .. ومازالت في حيرة من الأمر .. فأنا لا أعلم إذا كانت الرؤية الفريدة التي
شاهدتها ليلتها .. حلم أم علم .. واقع أم
خيال طفل حالم ..اختلطت علي الأمور مع مرور العمر .. دائما أتساءل ..هل ذاكرتي
تأثرت بما أسمع من المحيطين حولي بشأنها ..عادت الذاكرة وأنا أتأمل جلال وعظمة هذه
الليلة التي كانت في شهر رمضان المبارك ..عدت سنوات طويلة إلي الوراء .. وأنا أتذكر بوضوح ما كان يحدث علي غير العادة
..أتذكر البيت ..البيت الكبير .. أتذكر الحركة والترتيبات تشغل الجميع .. حيث يقطن
رأس العائلة جدي .. الحاج محمد يوسف وكان يشغل منصبا شرفيا بمنطقته يضاهي منصب
العمدة في القرى .. فهو من أعيان البلدة .. بعد أن انتهت خدمته في تفتيش الخاصة
الملكية بقيام انقلاب العسكر علي الحكم الملكي أو ما عرف بثورة الضباط الأحرار
..وأعتكف الرجل بعدها للعبادة ومتابعة مصالح الأسرة وأهل البلدة حتى أنتقل إلي
بارئه .. تاركا سنن حميدة لأولاده .. من
أهمها التقرب من الفقراء ومخالطتهم بالعطف عليهم كطريق لمرضاة الله .. وفي
جانب من الشارع العريض الذي يطل عليه البيت العامر أقيمت خيمة كبيرة أو كما تسمي
عندنا .. سرادق .. يسع ثلاثمائة شخص ..
مجهز لتناول إفطار الصائمين مغرب الليلة الكبيرة .. ليلة القدر .. وحول السرادق وقف رجال البلدة وبعض شباب
العائلة من أبناء الحاج محمد يراقبون
العمال أثناء عملهم في تجهيز الذبائح التي تصدق بها وقدمها أضاحي لله هذا الرجل
الكريم .. تكريما لهذه الليلة المباركة .. وفي البيت القديم القابع في وسط البلدة
أجتمع أبناء الرجل وأحفاده وأبناء أحفاده
.. ومن فوق سطح البيت كنت أتابع
بعين الطفل ما يدور حولي .. أرقب هذا المشهد الفريد والجديد علي في شغف ..وأسجل
بذاكرتي ما يحدث .. وقد أصبحت قادر علي
الادراك الجيد وعلي الصيام .. مازالت أتذكر عطف جدي علي وحبه رغم خشيت الناس منه
.. فللرجل مهابة لا تخفى .. فضلا عن طيبته وكرمه
.. في هذا اليوم أتذكر أنني تناولت
طعامي مع مربيتي التي ترعاني وسط الزحام .. تناولت ليلتها طعام الإفطار فوق سطوح
البيت .. بعيدا عن ضوضاء الزائرين والضيوف
.. أتذكر بأنه بمجرد اداء الحاضرين لصلاة العشاء .. بدأت فقرات الحفل بقراءة آيات
الذكر الحكيم من قارئ قدير .. وأثناءها كنت أنظر إلي السماء وأتأملها فأقشعر بدني
من هول ما رأيت .. ارتعدت .. فقد كانت هناك طاقة مستديرة تشبه القمر في استدارته وتفوقه
حجما وسعة .. وداخل هذه الطاقة ..كان هناك وجه رجل .. وجه
مستدير وملتحي ومنير ..يردد مع القارئ نفس الآيات .. وبنفس الصوت .. فصوت القارئ
.. يصدح في السماء والأرض معا وينير السماء .. وتساءلت .. كيف صعد هذا الرجل
للسماء .. وعجزت عن الإجابة .. فاستعنت بمربيتي .. سألتها .. نظرت المربية إلي السماء .. وقالت لي : أين
هو ؟
لا أري شيء .. السماء صافية وليس هناك رجال يمكنها أن
تصعد إلي السماء .. حينها ..أصابني الخوف الشديد .. فأنا أري ما لا تري .. ورغم
ذلك لا أعلم ما السبب الذي جعلني بتلقائية أرفع يدي بالدعاء والتضرع لله .. بكلمات ألهمني بها الله .. هبة منه .. بأدعية عرفتها بعدها بسنوات
طويلة .. كانت قد حفرت بذاكرتي بعدها أرادت أن أهرب وألوذ بالفرار من هذا الموقف
المرعب .. فنزلت بسرعة .. وأنا أقفز السلالم وأعود مهرولا إلي حضن أمي .. خائف ..
أقول لها وأتساءل .. وأنا أصيح .. كيف صعد الشيخ القارئ إلي السماء ؟ .. أنه الآن
يقرأ الآيات من السماء .. ويصيب أمي دهشة .. ماذا أصاب فتاها ..الولد قد حدث له
لوثة .. جنون .. فهي لا تعرف ماذا يقصد ؟ أو ماذا حدث له ؟ .. في البداية ..
انزعجت من كلامي .. فربطت علي صدري .. وطلبت مني أن يحكي لها ما حدث بهدوء .. حتى
تعرف سر هذا الخوف الذي انتابني حتى ارتعدت .. وأنا أحكي لها ما شاهدت .. أقشعر
جسد أمي مما حكيت .. واصطحبتني حيث أجتمع الأهل .. وطلبت مني أن أحكي ما رأيت فلعل
ما شهدت هي ليلة القدر أو طاقة القدر في هذه الليلة المباركة .. ويصعد الحاضرين
لرؤية ما رأيت .. ولكنهم يعجزوا عن رؤية
ما أري كنت أري .. طاقة مستديرة منيرة في كبد السماء .. أخذت أشير لهم اتجاها
.. كنت أشاهد الشيخ يقرأ داخل هذه الطاقة المنيرة .. فربطت أمي علي كتفي .. وإصطحبتني بهدوء إلي
مجلسها .. وهي تقول للحاضرين : لعلها ساعة إجابة للدعاء .. فتعالوا معا ندعو الله
.. أتذكر وقع كلامي علي الحاضرين .. فكان هناك من يقول لعل الله قد أختار هذا
الطفل لنقاء سريرته ليكشف له هذه الليلة ويصطفيه من بين الحاضرين .. وآخر يقول لعل
الله جعله سببا في تنبيه الحاضرين للدعاء والتقرب من الله ..هكذا قالت بعض
الحاضرات .. مرت الساعات سريعا وانتهت الليلة
.. وعدنا إلي منزلنا .. ومرت الأيام والسنين والرؤية عالقة بقلبي وذهني ..
بدأت تتجلي الحقائق أمامي .. أستوعب ما رأيت .. كلما سمعت العلماء تتحدث عن فضل
هذه الليلة .. فأقدر قيمة ما شهدت فيها
كلما أقبل شهر رمضان .. أتذكر أحداثها المحفورة في أعماقي .. أتذكر الفقراء ..
وكرم الشهر الفضيل .. وأذكر أمي بما حدث ..ولكنها
بدأت تنسي التفاصيل .. وأن كانت لا تنكرها .. و بطبيعتها القريبة من الله
.. كانت ترد علي قائلة : أعتبر ما شهدت .. مجرد رؤية في المنام وتضيف قائلة : لا تضع آمالك في الجنة علي هذه الرؤية .. ثم تستطرد قائلة .. نعم أتذكر هذا اليوم
ولكنك نمت فيه كثيرا قبل صعودك لسطوح منزل
جدك .. ومن المرجح أن تكون شاهدت ذلك في منامك .. كما أتذكر صعودنا معك لسطح
المنزل لنشاهد ما كنت تقول ولكن لن نختزل الدين في طاقة القدر .. الطاقة يا ولدي
دائما موجودة .. وباب الله لا يغلق .. وليلة القدر هي الإكثار من ذكر الله في
العشر الأواخر من رمضان .. فهي عبادة ليلة تعادل ألف شهر .. ونصيحتي لك أن تعتبر
أن طاقة القدر هي طاقة عمل .. تدعوك إلي أن تكون من أهل الخير..أن تعمل لله بلا مقابل .. تساعد
المحتاج فالخير لا يضيع عند الله ..
واستطردت تكرر .. عليك ألا تتعلق كثيرا بما رأيت .. وأنتظر أن تراها في وجوه الناس
من حولك .. تكرار أمي بهذه النصائح جعلني أشك في الأمر .. لا أعرف هل صادفتها حقا
.. وأتذكر كل الماضي الجميل الذي مر بطفولتي وكأنه حلم يبتسم .. و الغريب أني
مازالت حريص علي النظر إلي السماء كلما دخلنا العشر الأخيرة من رمضان .. و في كل
يوم فردي .. لعلي أصادفها .. أصادف ليلتي .. ليلة القدر .. وتتأكد حقيقة ما رأيت
تمت
تعليقات
إرسال تعليق