قصة
قصيرة وتحليلها
القصة : من كتاب وحي القلم : الجزء الأول : مصطفى
صادق الرافعي
العنوان : اليمامتان /قصة قصيرة
كانت
لأرمانوسة وصيفة مولّدة تسمى مارية ذات جمال يوناني أتمّته مصر ومسحته بسحرها ،
فزاد جمالها على أن يكون مصريا ، ونقص الجمال اليوناني أن يكونه ؛ فهو أجمل منهما
، وكانت مارية هذه مسيحية قوية الدين والعقل ، اتخذها المقوقس كنيسة حية لابنته ،
حين كان واليا وبطريركا على مصر من قبل هرقل ، وكان من عجائب صنع الله أن الفتح
الإسلامي جاء في عهده ، فجعل الله قلب هذا الرجل مفتاح القفل القبطي . كان العرب أربعة آلاف رجل ثم زادوا حتى صاروا
اثني عشر ألفا ، وكان الروم مائة ألف مقاتل بأسلحتهم ,لكن روح الإسلام جعلت الجيش
العربي كأنه اثنا عشر ألف مدفع بقنابلها ، لا يقاتلون بقوة الإنسان ، بل بقوة
الروح الدينية التي جعلها الإسلام مادة متفجرة تشبه الديناميت قبل أن يعرف
الديناميت .
ولما
نزل عمرو بجيشه على مصر ، جزعت مارية جزعا شديدا، إذ كان الروم قد أرجفوا أن هؤلاء
العرب قوم جياع وأنهم جراد إنساني لا يغزو إلا لبطنه ، وأنهم غلاظ الأكباد كالإبل
التي يمتطونها وأن النساء عندهم كالدواب ، وأنهم لا عهد لهم ولا وفاء ، وأن قائدهم
عمرو بن العاص كان جزارا في الجاهلية وما يزال . ومن ذلك كله استطير قلب مارية
وأفزعتها الوساوس؛ فجعلت تندب نفسها ، وصنعت في ذلك شعرا :
جاءك
أربعة آلاف خاطف أيتها العذراء المسكينة !
ستموتين
أربعة آلاف ميتة قبل الموت !
قوني يا إلهي لأغمد في صدري سكينا يرد عني الجزارين
!
يا
إلهي قوّ هذه العذراء لتتزوج الموت قبل أن يتزوجها العربي!..
وذهبت
تتلو شعرها على أرمانوسة في صوت حزين يتوجع ؛ فضحكت هذه وقالت : أنت واهمة يا
مارية ! أنسيت أن أبي قد أهدى إلى نبيهم بنت أنصنا ، فكانت عنده في مملكة بعضها
السماء وبعضها القلب؟ ،
إن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في
العالم تمييزه بين الحق والباطل ، وإن نبيهم أطهر من السحابة في سمائها وأنهم
جميعا ينبعثون من حدود دينهم وفضائله ، ولأن تخاف المرأة على عفتها من أبيها أقرب
من أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبي... فاستروحت مارية واطمأنت باطمئنان
ارمانوسة وقالت : فلا ضير علينا إذا فتحوا
البلد ولا يكون ما نستضر به ؟
قالت
أرمانوسة : لاضير يا مارية ، ولايكون إلا ما نحب لأنفسنا ، ،
امتلأت
نفس مارية إعجابا بهذه الشعب المسلم وجعلت تردد في نفسها : إن هذا والله لسر إلهي
يدل على نفسه، المسيح بدء وللبدء تكملة ، ما من ذلك بد ، ولا تكون خدمة الإنسانية
إلا بذات عالية لا تبالي غير سموها ، الأمة التي تبذل كل شيء وتستمسك بالحياة جبنا
وحرصا لا تأخذ شيئا ،والتي تبذل أرواحها فقط تأخذ كل شيء فلن تقهر أمة عقيدتها أن
الموت أسعد الجانبين..
فلما
أراد عمرو بن العاص توجيه أرمانوسة إلى أبيها قالت لها مارية : لايجمل بمن كانت
مثلك أن تكون كالأخيذة تتوجه حيث يسار بها
والرأي أن تبدئي هذا القائد فأرسلي إليه وأعلميه أنك راجعة إلى أبيك واسأليه أن
يصحبك بعض رجاله كأميرة مكرمة
قالت
أرمانوسة : ولا أجد خيرا منك يوصل هذه الرسالة.
هبت
مارية للقاء عمرو بن العاص فلما عادت جعلت تقص على سيدتها ما كان : لما أديت إليه رسالتك ، قال : كيف ظنها بنا ؟
قلت : ظنها بفعل رجل كريم يأمره اثنان : كرمه ودينه ، فقال : أبليغها أن نبينا صلى
الله عليه وسلم قال : ” استوصوا بالقبط خيرا فإن لهم فيكم صهرا وذمة ” وأعلميها
أننا لسنا على غارة نغيرها ؛ بل على نفوس نغيرّها .
قالت
أرمانوسة : صفيه لي يا مارية ؟
قالت
: أبلج يشرق وجهه كأن فيه لألاء الذهب على الضوء . أيّدا اجتمعت فيه القوة حتى
لتكاد عيناه تأمران بنظرهما أمرا . داهية كتب دهاؤه على جبهته العريضة وكلما حاولت
أن أتفرس في وجهه رأيت وجهه لا يفسره إلا تكرر النظر إليه ..
ثم
تضرجت وجنتا مارية خجلا ،وضحكتا معا.
فتحت
مصر صلحا بين عمرو والقبط ، ومنذ لقاء
مارية بعمرو بن العاص أخذت تطوف في نفسها صورة ذلك الفاتح وجعلت تذوى وشحب لونها
وبدأت تنظر النظرة التائهة ،إذ كان يتقاتل في نفسها الشعوران العدوان : شعور أنها
عاشقة وشعور أنها يائسة ، فرقت لها أرمانوسة
وفكرت في طريقة تخفف عن مارية ما تجد. فسهرتا ليلة في تدبير المخارج حتى
استقر رأيهما على أن تحمل مارية رسالة من أرمانوسة إلى عمرو ،
ولكن
سفينة عمرو في تلك الأثناء كانت قد أبحرت بعيدا فقد رحل عن مصر بعد فتحها ..
شاع
في مصر خبر مفاده أن عمرا عندما أمر بفسطاطه أن يقوّض ، أصابوا يمامة قد باضت في أعلاه ، فلما اخبروا عمرو بن العاص
بخبرها قال : قد تحرّمت في جوارنا ، أقروا
الفسطاط حتى تطير فراخها فأقروه .
ولم
يمض غير طويل حتى قضت مارية نحبها ، وحفظت عنها أرمانوسة هذا الشعر الذي أسمته
: نشيد اليمامة :
على
فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها ..
تركها
الأمير تصنع الحياة وذهب هو يصنع الموت .
يمامة
سعيدة ، ستكون في التاريخ كهدهد سليمان ،
نسب
الهدهد إلى سليمان ، وستنسب اليمامة إلى عمرو
واها
لك يا عمرو ! ما ضرّ لو عرفت ( اليمامة
الأخرى )...!
\\\\\\
النقد الفني للقصة :
أولا
: وحدة الحدث : ( الموضوع الذي تدور حوله القصة )
فتوح
المسلمين الخارجية وما نشأ عنها من احتكاكهم بالشعوب المفتوحة ، وما نشأ عن هذا
الاحتكاك من إعجاب بالشخصية الإسلامية والدين الإسلامي من خلال شخصية عمرو بن
العاص التي تمثل الجانب المسلم وشخصيتي ارمانوسة ومارية اللتان تمثلان الشعوب
المفتوحة
ثانيا
: الشخصيات : شخصية أساسية : مارية : الشخصية المحورية
شخصيات ثانوية :
أرمانوسة ، عمرو بن العاص
ثالثا
: العقدة والحل ، الصراع ، التفصيل والبناء:
العقدة
هنا تضخمت من خوف مارية من العرب الفاتحين لما أشاعه الروم من أراجيف حول صفات
العرب فكان ذلك مثار حزن وألم وصراع داخلي
تمثل فيما قالته من شعر تتوجع فيه وتتأوه ، ثم بدأ حل هذه العقدة عندما
بدأت تتحدث مع مارية فاطمأنت قليلا ولكن الحل الحقيقي لهذه العقدة كان في لقائها
بعمرو بن العاص فتغيرت الصورة لديها عن العرب والمسلمين .
أحداث
ساهمت في حل العقدة : 1. حديث مارية مع أرمانوسة
2. تكريم عمرو بن
العاص لأرمانوسة ووصيفتها بإعادتهم إلى بلادهم كأميرة مكرمة
3. فتح
مصر صلحا وحسن سيرة الفاتحين
رحيل عمرو بن العاص عن مصر وما أثاره في نفس
مارية من شجن نظمته شعرا .
رابعا
: الزمان والمكان : الزمان : العصر الإسلامي الأول ... عصر الفتوحات الإسلامية
المكان : ... مصر
دلالات
الزمان والمكان على سير القصة : نقلت القارئ إلى جو المبادئ الإسلامية الأولى
الصافية في أرق وأنصع صورها ، كما أعطى ذكر مصر ببعض مناطقها الجغرافية المتمثلة
في ( أنصنا :ا لوجه القبلي من صعيد مصر إشارة إلى مارية القبطية التي تزوجها الرسول
صلى الله عليه سلم ) البعد العميق للأرض التي تضم أجناسا من الناس (رومان ، أقباط
.. ثم دخول العنصر العربي وكيف تعايشت هذه العناصر الثلاث في جو التسامح الديني
وهو الدرس الذي توحي به القصة )
خامسا السرد : نقل الأحداث كان بالطريقة المباشرة :
أن يتحدث الكتاب عن الأحداث بصورة المشاهد لها .
سادسا
: الحوار : باستعراض الحوار في القصة نجد أنه قد أثرى ا لقصة وتمحور حول غايتها
وحدثها :
1. نقل
الجو النفسي لمارية .
نقل
الجو الفكري عن صورة المسلمين لدى الشعوب المفتوحة أدخل
جوا رومانسيا للقصة خدم
الهدف حيث أثار الإعجاب بالشخصية العربية المسلمة
سابعا
: الفكرة : التسامح الديني وما يتركه العفو من أثر في النفوس حيث أعاد
عمرو بن العاص أرمانوسة مكرمة إلى أبيها رغم أنها كانت أسيرة وهو القائد المنتصر
سابعا
: نوع القصة : تاريخية
ثامنا
: مبدأ التركيز والتكثيف : خلت القصة من
استطرادات عدة من مثل:
1. وصف
مصر في ذلك الزمان
2.وصف الحياة الرغيدة
التي كانت تعيشها أرمانوسة ومارية في قصر المقوقس كما خلت من وصف حالة أرمانوسة
ومارية في الأسر عند المسلمين
2. خلت
من الحديث حول الوصف الدقيق للحرب ثم للحصار ثم للصلح الذي حدث بين عمرو بن العاص
وسكان مصر وحاميتها الرومانية
3. لم
يكن ثمة تعريف كبير بالإسلام كدين بين عمرو بن العاص ومارية بل اكتفى بعبارة (
لسنا على غارة نغيرها ولكن على نفوس
نغيرها ) وبهذا كثّف الفهم في تغيير النفوس إشارة إلى الآية الكريمة ( إن الله لا
يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )
4. عدم
الاستطراد في وصف الوضع السياسي لمصر في ذلك الزمان هل كانت إمارة تابعة بشكل كامل
إلى روما أم كانت ولاية تتمتع بحق الحكم الذاتي ، ولكن ما أعاننا على الفهم وصفه
للمقوقس ( كان واليا وبطريركا على مصر من قبل هرقل) وهذا يفهمنا أنها كانت ولاية ،
إضافة إلى أنها كانت مسيحية الديانة لأن البطريرك اسم من أسماء الكهنوت المسيحية ،
وهذا أفهمنا أيضا أن المقوقس كان متدينا ولذلك اتخذ مارية لابنته لتكون (كنيسة حية
) لها كما جاء في القصة .
نورد هنا شرحا لبعض
المفاتيح التي تم استعراضها في القصة :
طريقة العرض وتسمى السرد:
1- الطريقة
المباشرة : وهي أكثر الطرق شيوعا وفيها يروي المؤلف ما يحدث للآخرين .
2- السرد
الذاتي : وفيها تروى الأحداث على لسان التكلم وهو غالبا بطل القصة ويبدو المؤلف
وكانه البطل : مثل : ( إني أقف حائرا في مفترق الطرق بين عقلي وعاطفتي ..)
الحوار
: هو حديث الشخصيات في القصة وفائدته جعل القارئ أكثر قربا من المواقف ، وبعث
الحيوي في المشهد ، والاعتماد أساسا يكون على السرد ، أما الحوار فتكملة ، ويشترط
ألا يزيد على ثلث القصة حتى لا تتحول إلى مسرحية .
الوصف
: فأسلوب يتخلل العمل القصصي كله ويمهد له الكاتب بقوله مثلا : كان لمارية وصيفة
مولدة ... وفائدة الوصف نقل الجو الذي تجري فيه الأحداث .
الفكرة
: وهي المغزى الذي يرمي إليه الكاتب من تأليف القصة ، وهدفه من القصة ، وهي غالبا
الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة أو السلوك الإنساني ، وذلك يثير إعجابنا بالقصة
تعليقات
إرسال تعليق