رحلة إلي الصعود تأليف : وئام عبد الغفار
عند دخوله مدرج الإحتفالات الكبري بكلية
الحقوق أستقبل طلاب الفرقة الأولي الدكتور يحيي بالتهليل والتصفيق تعبيرا عن
أعجابهم به .. فقد أعتاد الطلاب وحرصوا منذ بداية العام الدراسي علي حضور مادته ..
وتلقي دروس الإقتصاد التي جعلها بطريقته المبتكرة .. شيقة وممتعة حتي ذاع صيته
وعلا أسمه بسبابها ليس في كل أرجاء الكلية وحسب وأنما أيضا في سائر أنحاء الجامعة
.. وما أن أنتهي الهرج والمرج الذي أحدثه دخوله..
حتي ساد الصمت والهدوء بإشارة
خفيفة من يده .. فالجميع يخشي من غضبه.. وعقابه في الغالب هو إلغاء المحاضرة
والإنصراف.. فمن المعروف عنه أنه لا يحب إيذاء طالب مهما حدث..
ولكن إلغاء
المحاضرة يفقد الطلاب سماع محاضرة قيمة لا تخلوا من المرح وأحيانا بعض النكات
الجديدة التي يجيدها دكتور يحيي بخفة ظله.. فهو سريع البديهة وفطن.. وهذا سر من
أسرار سعادة الشباب وإنجذابهم إليه..
وبينما هو مستغرق في الشرح سمع الجميع وقع خطوات كطرق الخشب علي سلم المدرج ..
وعفويا .. بلا إرادة
إتجهت الأنظار نحو مصدر الصوت فإذا بفتاة جميلة الملامح وأنيقة الملبس .. فملابسها
مميزة التناسق وبسيطة المظهر بلا تكلف.. تهبط بكل ثقة من أعلي الدرج .. وهي ترتدي
في قدميها حذاء ذو كعب خشبي مدبب..
تتعمد بلا إكتراث وبطريقة إستفزازية طرقه ببطء
وقوة وهي تهبط به متجهة إلي أسفل المدرج..
حيث المسرح والمنصة التي يقف عليها د. يحيي .. ولمح يحيي الفتاة وأستوعب الأمر ..
وأراد أن يرد بذكاء عليها .. وبخفة ظل.. وحتي لا يشعرها أنها نجحت في إستفزازه ..
فهو لا يرغب في عاقب فرقة كاملة بسبب خطأ فردي ..فأشار إليها بالتوقف حيث كانت ..
ثم ضم أصابع يده اليمني وفردها في صورة
مرآة أو تخيل أنه يمسك بيده اليمني مرآة .. ويمسك في يده اليسري مشط أو فرشاة
تخيلية أيضا..
ثم نظر في مرآته التخيلية وكأنه يراجع طريقة تصفيف وتنسيق شعره
وتناسق هندامه .. ثم قام بدور تمثيلي .. حيث تقمص دور فتي ينظر إلي فتاته بجاذبية
.. بعدها قال لها مخاطبا: أتصورك وأنت تهبط الدرج .. أنك إمرأة قادمة من زمن بعيد
..
من حي شعبي قديم .. في زمن ما يعرف بالملاءة أو الملاية اللف .. ثم أضاف قائلا
: أتصورك وأنت ترتدي الملاءة وتغطي وجهك بالبرقع وفي قدمك القبقاب الخشبي .. حيث
كان يطرقع وهو يطرق سلم الدرج وأنت هابطة من أعلي.. حيث أقف .. كشاب من أبناء الحي
.. بجلباب مميز مفروش وشال أو تلفيحة
منقوشة وعمامة مرسومة وشارب مفتول .. وكأني فتوة من فتوات حارتك .
.وما إن
أنتهي دكتور يحيي من تشبيهاته وتصويره
الغريب والعجيب .. حتي أنفجر الطلاب والطالبات في نوبة ضحك وسخرية من الفتاة ..
وإصطنعت الفتاة الحياء والخجل.. حيث لم تتصور حدوث مثل ذلك الرد .. كان رد فعل
الدكتور غير متوقع لها.. فهي كانت تعتقد أنها سوف تغضبه ويثور عليها وبالتالي تنجح
في لفت نظره إليها..
و لكنها صدمت وإستغربت طريقته المبتكرة في الرد عليها.. وقبل
أن ينتهي د. يحيي من كلامه معها سألها عن أسمها .. وسجله معه.. ثم طلب لقاءها
بمكتبه بعد إنتهاء محاضرته.. بعدها أشار للطلاب بالعودة للهدوء والسكينة وأستجاب
الجميع له وعاد مرة أخري لموضوع الشرح والدرس.
إنتهت المحاضرة .. وبمجرد دخول د. يحيي
غرفة مكتبه .. سمع طرقا علي الباب .. فامر الطارق بالدخول .. فإذا بها تدخل وهي
تبتسم .. فتقمص د. يحيي دوره كأستاذ .. وسألها وهو مقتضب الوجه عن أسمها مرة أخري
..
فردت : أسماء .. فكرر قائلا لها أسمك أسماء .. فأومأت برأسها .. فقال معترضا :
هذا غير لائق .. عندما أسألك .. لابد أن ترد.. علي أستاذك بكل إحترام وتنطقي أسمك
.. كلما سألك مهما تكرر السؤال.. وظل يطالبها بتكرار أسمها وهي تستجيب مجبرة
وخائفة من عقوبته المنتظرة ..
ثم سألها عن
بياناتها العائلية وعمرها ومحل سكانها وتفاصيل حياتها الدراسية.. وهي تستغرب ذلك
ولكنها ترد ولا تعترض.. بعدها طلب منها الجلوس .. فترددت ولكنها جلست ولم ترفض ..
فطمأنها بأنه لن يعاقبها ..
وطلب منها معرفة أسباب فعلتها بالمحاضرة.. فإبتسمت وهي
تقول : حضرتك .. تريد أن أكون صريحة .. فرد مؤكدا .. فقالت : أردت شد إنتباهك لي
.. فرد متعجبا عن السبب .. فردت بأنها تحتفظ بالسبب لنفسها ولاداعي لأن يحرجها ..
بعدها طلب منها أن تنتظم في محاضراته وفي الحضور مبكرا وأن تجلس في الصف الأول
أمامه .. وأنه سوف يتابع حضورها .. ثم سمح لها بالإنصراف.
كان د. يحيي في الثامنة والثلاثين من
العمر ولم يتزوج بسبب تفرغه للعلم وللنجاح في عمله بلا أعباء إضافية .. وقد شدت
إنتباه هذه الفتاة .. أسماء .. فهي ذكية وجميلة ومرحة ولكنها صغيرة وفي مقتبل
العمر ولا تصلح زوجة بسبب أن عمره يمثل ضعف عمرها وهذا فارق كبير بينهم ..
ولكنه
شعر بخفقان قلبه لها ..ففيها جاذبية لا تقاوم ورقة وشجاعة.. شدته منذ وقع نظره
عليها وهي تهبط الدرج .. ولكن هل يقبل أهلها به كزوج .. لا يعتقد .. فرغم أنه ناجح
إلا أن العمر مائع كبير بينهم .. ولكن ما المانع من أن يساندها حتي تنتهي من
تعليمها ويدفع بها إلي طريق السلك الجامعي ويصنعها ويجعلها زميلة له ويظل ولائها
له طوال العمر.. يصنع نجاحها بيده .. وهي أهل لهذا النجاح ..
بذلك قد يولد وينمو
الحب بينهم وينال ثقتها .. فهناك رغبة داخله في جعلها قريبة منه.. و قد يحمل
المستقبل مفاجآت ..ولايكن السن عائق أو مانع إذا تقدم يطلبها للزواج .. فالأيام
تنضجنا .. وتختلف نظرتنا للأمور مع تقدم العمر ..
أقنع نفسه بأنه مع السن قد يكون
زمام أمرها بيدها وليس بيد أسرتها.. أراد أن يعيش في البداية قصة حب من طرف واحد
.. حب عفيف بعطاء ولاغرض إلا داخله هو.. حب من بعيد .. أراد أن يكون جندي مجهول في
طريق نجاحها وتألقها ..
أنتهي اللقاء بينهم بالترحيب بالعرض ..
ولم تصدق أسماء ما سمعت .. شعرت بالبهجة وبأنها تحلق في سماء العلم والمجد..
لابد
أنها منحة ربانية.. رزق.. سوف تحقق معه كل
أمنيتها واحلامها .. وفعلا ظل د. يحيي يساعدها ويمنحها علمه وكتبه .. بل سوف تكون
مدينة لدكتور يحيي بحياتها .. وفعلا نفذ
دكتور يحيي وعوده لها .. صنع معها مالم يتصوره أحد أن يصنعه..
ساعدها بكل الوسائل
في تحقيق النتائج التي تجعلها أول دفعتها بما في ذلك تسريب ما هو مؤتمن عليه من
إمتحانات وتعديل في التصحيح من أجلها
وبدافع الحرص علي تألق صنعته .. وهي أسماء.. مما جعلها تضع أمام نفسها علامات إستفهام
عن سر كل هذه التضحيات التي يصنعها من أجلها في كتمان بينهم..
وهي لم تري منه
تجاوز معها كأنثي أو محاولة لإستغلالها إستغلال غير أخلاقي .. وكل ذلك بلا مقابل
نهائيا.. ماديا أو معنويا.. وفعلا عشقت وأحبت د.يحيي ولكن كأستاذ وأب لها في الدرس
والعلم ورغم تحفظها داخليا علي تجاوزاته من أجلها ومن أجل نجاحها وإعطائها ما لم
تستحق أن تأخذ..
وكانت تترجم ذلك بأنه يعتبرها أخت له وتلميذته.. ومرت الأيام
وإنتهت أسماء من دراستها .. وسعي د. يحيي في تعينها في الكلية كمعيدة في مادته ..
وأستجاب مجلس الكلية لطلب الدكتور .. فهي أول دفعتها علي مدار أربع سنوات..
وأعتقد
هو أنه قد حان موعد رد دينها إليه .. وبلا تمهيد فاتحها في أمر الزواج منها معتقدا
ومنتظرا أنها سوف ترحب بالعرض.. فكانت مفاجأة لها غير متوقعة .. فهو كان قديرا في
كبت مشاعره العاطفية إتجاهها كإمرأة وليست
كتلميذة طوال سنوات دراستها ولم يحاول بث عواطفه والتعبير عن رغبته..
وكانت تترجم
الحب المتبادل بينهم علي أنه حب أبوي .. مستندة في ذلك لتصريحه عند لقاءها
الثاني معه في غرفة المكتب.. بأنها أختا
له .. شعرت بالضيق والحرج من طلبه .. كما كانت مفاجأة له ترددها في القبول .. وكأن
قبوله من البديهيات .. فهي تحلم بأن تستكمل مشوارها مع شاب في مقتبل العمر ..
نعم
هي تدين له بنجاحها وتألقها المهني ولكنها لم تطلب منه أن يساعدها .. هو تبرع
بالمساعدة.. لذلك طلبت منه أن يمهلها وقتا للتفكير.. وخرجت وهي تفكر في مخرج من
ازمتها بما يحفظ علاقتهما العلمية معا .. وإهتدت أو تفتق ذهنها إلي فكرة إيجاد عروس مناسب له ردا للجميل ووفاء ..
ثم عادت وتراجعت لأن طبيعة شخصيته القيادية لن تقبل ذلك الطرح.. وهناك صعوبة في
التنفيذ وقد تفشل في مهمتها .. فهو أمر خيالي لن يقبل به .. ويتنافي مع تفكيره
ورغبته في الزواج منها هي بالذات .. فلم يكون ما فعل كل هذه الأعوام مجرد تصدق أو
إحسان .. بدأت تسترجع سنواتها الأربع ..
كان كل ذلك أعداد لزوجة تفصيل .. في سخرية
وتهكم قالت في داخلها .. يا سلام .. فعلا دكتور .. ولكنه لم يضع في حسبانه أنها
إنسانة أيضا وتملك مشاعر مثله .. وفي إمكانها أن ترفض عرضه.. عرض شراءها سدادا
لدينها.. كل ذلك بدأ يدور كشريط سينمائي في مخيلتها .. فكرت وفكرت ..
فكرت في
الهروب من الموقف بالبحث عن عمل آخر تنتقل له في نفس الوظيفة التي تشغلها .. فهي
قد تستطيع أن تمنحه عائدها المادي .. تعيد وتنسب فضل نجاحها له أمام الجميع تنسب
له تألقها المهني.. بمعني أخر تعيد الفضل لأصحابه .. ولكن لا تستطيع أن تدفع عمرها
مجاملة لأستاذها..
نعم لابد أن كلاهما إختلفت نظرته للأخر .. لابد أنه كان يراها
بعين عاطفته وقلبه وأنانيته أيضا ورغبته في تفصيل زوجة .. زوجة صغيرة ناجحة ..
بينما هي تراه بعين العقل والتلميذ وأستاذ علم ومنهج.. لم تعلم أنه يعدها زوجة
للمستقبل وإلا كانت قد رفضت منذ البداية.. بعدها تعمدت الغياب عن العمل ..
وحصلت
علي اجازة مرضية .. بررت لنفسها المرض .. إعتبرت ما أصابها هو عين المرض .. قد
يكون يوما صعد بها إلي سماء النجاح عندما هبطت درج قاعة الإحتفالات.. ولكنها اليوم
سقطت بغير أرادتها ولم تهبط بفعل هذا الطلب الغريب الذي أسقطه هو أيضا من نظرها
وحساباتها .. فهل تستطيع أن تستقل وتنجح تصعد بدونه درج قاعة أخري في جامعة أخري
.. وسط تصفيق طلاب جدد وبلا مساعدة .
تمت
تعليقات
إرسال تعليق