هل من الممكن أن تجدد الذاكرة حزنا ووجعها ونزفها؟؟ الإجابة وبلا تردد نعم، فلقد عادت إلى الواجهة في الذاكرة الفلسطينية بقوة بعض تفاصيل ومشاهد النكبة عام 1948،عبر مسلسلين تلفزيونيين هما التغريبة الفلسطينية للمخرج السوري حاتم علي، ومسلسل " عائد إلى حيفا " للمخرج الفلسطيني باسل الخطيب.
ورغم تشابه المسلسلين في بعض الأفكار والحوادث إلا أن مسلسل ( عائد إلى حيفا ) والذي يحمل اسم ومضمون رواية للأديب الراحل غسان كنفاني أعاد إلى الذاكرة أيضا سيرة حافلة لأصل الرواية التي احتلت في وجدان الفلسطينيين مكانا متميزا منذ عدة عقود؟؟ فيا ترى ماذا تحكي هذه الرواية؟؟ وكيف استطاعت أن تحافظ على وهجها رغم مرور أكثر من خمسة وثلاثين عاما على صدور الطبعة الأولى منها؟
• هل من جديدْ؟
البحث عن الجديد سؤال يشغل بال الكثيرين، وقد ألح على قلمي حين هممت بالكتابة عن هذه الرواية تحديدا، فما هو الجديد الذي سأقدمه للقارئ عن هذه الرواية بعد عشرات المقالات والدراسات والمؤلفات عن هذه الرواية بشكل خاص، وأدب كنفاني بوجه عام.
السؤال المتكرر للنفس في البحث عن الجديد الذي قد يكون قيدا على القلم في فترات معينة إذا لم يستطع الكاتب أن ينطلق من حصار الأسئلة، ويُضيف جديدا في ختام سطوره.
من هنا رأيت أن إطلالة متنوعة على الرواية بين الأدب والفن، مع اختصار لبعض المعلومات وجمع بعضها الآخر قد يساعد في تجاوز إشكالية البحث عن الجديد، وتقديم معلومات بشكل كافي للقارئ الذي يبحث عن هوية هذا العمل وأهميته.
• السيرة الذاتية للرواية:
رواية عائد إلى حيفا للأديب والروائي الفلسطيني غسان كنفاني، سجلت نفسها كأحد أبرز الروايات في الأدب الفلسطيني المعاصر، وكانت من الأعمال التي عززت انطلاقة كاتبها إلى الأفق العالمي كما سنرى، صدرت طبعتها الأولى عام 1969، وقد صدرت عدة طبعات منها داخل فلسطين وخارجها، ولقد وصل عدد الطبعات حتى عام 2001 إلى خمس طبعات باللغة العربية، بالإضافة على ترجمتها إلى عدة لغات كان من بينها، ترجمتها إلى اللغة الروسية عام 1974 عن طريق المترجم السوري د. ماجد علاء الدين، وقيام الباحث الإيراني يوسف عزيزي بترجمتها إلى اللغة الفارسية عام 1991م. بالإضافة إلى عدد من اللغات الأوروبية وهذا يعني أنّ الرواية استطاعت أن تحلق بفكرتها وإبداعها في فضاءات الجغرافيا المختلفة، تنشر القضية وتحكي عن الكارثة وتعمل على تشكيل فهم ووعي عن طبيعة القضية الفلسطينية كما سنرى عند الحديث عن مضمونها.
أمر آخر وهو أن هذه الترجمات ساعدت في تحقيق تواصل بين أدباء العالم ومثقفيها ليس مع فلسطين بعنوانها العريض فحسب بل مع أدق الفسيفساء التي كانت تكون الروح الفلسطينية في وقت حرج ومهم وحساس، حيث تحكي الرواية عن زمن النكبة والنكسة، وعمق الإشكالية التي تعالجها الرواية في مفهوم الوطن والحنين له والعودة إلى ربوعه.
* مضمون الرواية:
قد يكون من الملفت حين البدء في الحديث عن رواية ( عائد إلى حيفا ) أن نذكر أن عدد صفحاتها لا يزيد عن سبعين صفحة من القطع الصغير !! وهذا يولّد حوارا مبكرا في أنّ العمل الأدبي لا يرتبط بالحجم وإنما بالنوع، وأن الروائي يستطيع أن يطيل أو يختصر حسب ما يرى ذلك مناسبا، ومفيدا للعمل الأدبي الذي بين يديه.
يقو الناشر عند تعريفه بالرواية فيقول ( في هذه الرواية، يرسم غسان كنفاني الوعي الجديد الذي بدأ يتبلور بعد هزيمة 67، إنها محاكمة للذات من خلال إعادة النظر في مفهوم العودة ومفهوم الوطن ).
سعيد بطل الحكاية ويمكن أن نقول وجع الحكاية فهذا أدق في الوصف حيث يعود ( سعيد. س ) كما يذكر كنفاني في روايته إلى حيفا مع زوجته صفية بعد عشرين عاما من النكبة حيث التهجير القسري، وحيث تنسى الأم ابنها الرضيع خلدون على سريها في المنزل، وتظل في حالة بحث عن زوجها الذي يقلقها تأخره في ظل الوضع المتوتر في الحرب بين الصهاينة والفلسطينيين، وتجد نفسها بين الناس في الشوارع يجرها سيلهم وهي لا تدري على أين يسير بها، وهو ما جرى بصورة مختلفة قليلا مع زوجها. حيث وجد نفسه يسير اضطراريا نحو الميناء غير قادر على الرجوع إلى المنزل والبحث عن زوجته وابنته.
هذه الأحداث يسردها الراوي بطريقة فنية متميزة حيث تأتي في إطار استذكار مشوق ومحزن من قبل ( سعيد ) وهو في طريقه إلى حيفا مع زوجته، حيث يعودان لزيارتها بعد سقوط الضفة الغربية وغزة بأيدي الصهاينة بعد نكسة حزيران 1967 وسماح قوات الاحتلال للفلسطينيين في الضفة بالتجول بحكم أن المناطق كلها هي تابعة لدولة إسرائيل.
وهو عبر هذه المفارقة يجدها فرصة كي يرى منزله وذكرياته التي هناك، ويكون في شوق ولهفة أكبر مع زوجته إلى معرفة المصير الغامض الذي حل بابنهم الرضيع قبل عشرين عاما. والذي لم تفلح جهودهم الأخرى في معرفة ذلك المصير الغامض.
وفي هذا السياق يجيء تعريف الناشر مرة أخرى بالرواية حين يقول ( سعيد س. العائد إلى مدينته التي ترك فيها طفله يكتشف أن الإنسان هو قضية، وأن فلسطين ليست استعادة للذكريات، بل هي صناعة للمستقبل ).
ويأتي هذا بعد أن يصل سعيد مع زوجته صفية إلى منزلهما في حيفا، ليجدا ميريام اليهودية وقد سكنت في البيت مع زوجها إيفرات كوشن بعد أيام قليلة على ترك سعيد للمدينة، حيث صار البيت تحت تصرف هيئة أملاك الغائبين، ويجد ميريام وكوشن إغراء مع البيت، طفل رضيع يسمح لهما بتبنيه إذا وافقا على السكن في المنزل!
وهكذا يضيع البيت والابن والوطن كذلك، وتضيع 20 سنة من سعيد وصفية وهما على أمل اللقاء بخلدون، الذي يلتقيانه في نفس البيت ولكن وقد تربى عند هذه العائلة اليهودية وصار جنديا في دفاع الجيش الإسرائيلي، وحمل من يوم ضياع حيفا اسم " دوف "، وكل هذه الدلالات تكشف تناقضا غريبا ومبدعا في الرواية حين يرفض دوف العودة مع والديه، ويصر على ما تربى عليه عند ميريام، أمام صورة الابن الثاني خالد والذي بقي في المنزل وهو يصر دائما على حمل السلاح دفاعا عن الوطن. ليقول سعيد بعد ذلك بكل وضوح: (كنت أفتش عن فلسطين الحقيقية، فلسطين التي هي أكثر من ذاكرة، أكثر من ريشسة طاووس، أكثر من ولد، أكثر من خرابيش قلم رصاص على جدار السلم).
ويعترف أن الوطن عند ابنه خالد صار هو المستقبل رغم أن هذا الأخير لم يعرف حيفا، التي يعرفها والده بكل تفاصيلها ودروبها حتى لو تغيرت أسماء شوارعها إلى العبرية رغما عنها.
في هذه الرواية يغيب الرمز كما يقول الناقد ناهض زقوت (فالمعطى الواقعي الفلسطيني لا يتقبل الرمزية في الإبداع، حيث كان المبدع مشحوناً بالصور والدلالات والتفاصيل والمآسي والمذابح، فكان لا بد من تقديم تلك الشحونات فنياً وإبداعياً، لهذا غاب الرمز ليحل محله تعبير مباشر وقوي عن جوهرية النكبة وتداعياتها).
* الرواية تلفزيونيا:
كان أول ظهور للرواية على الشاشة عام 1982 حين قام المخرج العراقي قاسم حوَل بإخراج فيلم روائي حمل اسم الرواية واستند إلى قصتها.
هذا الظهور التلفزيوني للرواية أضاف إليها بعدا جديدا من الشهرة، وسلط الضوء عليها، وأعطاها مساحة أوسع من الجمهور الذي تعرف على الرواية من هذا العمل التلفزيوني.
أما المسلسل الذي حمل اسم الرواية أيضا كما أسلفنا فهو يحاكي قضية فلسطين في بعدها الإنساني العميق. و يقف المشاهد أمام حالة إنسانية وطنية تراجيدية، حيث تبدأ مع عام النكبة في ذروة أحداثه، ليصور المسلسل رحلة طويلة من التشرد والعذاب والآلام، رحلة يغوص في مخاضها مئات الألوف من الفلسطينيين بعد أن اقتلعوا من ديارهم وحرموا من أهلهم وأرضهم، فالمسلسل يؤرخ ليوميات سقوط حيفا عام 1948 من خلال رصده لمصير عائلة فلسطينية (مأساة المدرس الفلسطيني سعيد وزوجته صفية) حيث التشتت والمعاناة من التهجير والنزوح والتشريد في المخيمات.
ولأن العمل التلفزيوني بحلقاته المتتابعة يحتاج إلى كثير من التفصيلات، فقد تم الاعتماد على قصة كنفاني كأساس للعمل، مع بعض الإضافات والتفصيلات التي لم تكن موجودة في الرواية والتي تم إضافتها لتتناسب مع العمل الدرامي التلفزيوني وأحداثه الكثيرة عبر كاتب سيناريو.
وكنت قد أبديتُ للمخرج باسل الخطيب استغرابي كون الرواية قليلة عدد الصفحات على عكس المسلسل الذي أخذ مساحة زمنية طويلة، فما كان منه إلا أن قال : إن رواية عائد إلى حيفا تمثل قضية الشعب الفلسطيني بكل ما فيها، ومن هنا على حد قول المخرج جاء السيناريو متناسبا مع قصة كاتب الرواية، حيث تتكون أحداثها مما عايشه الشعب الفلسطيني في نكبته وبعد تشرده.
حيفا…مدينة الجرح والحلم:
ظل الوطن الفلسطيني بالنسبة للأدباء والمثقفين والفنانين يمثل القضية الأولى لهم، قضية الوجدان والمصير والهوية، فعاش فيهم رغم أن الكثيرين هجروا عن ربوعه، وأخذت حيفا بما تحمله من خصوصية تاريخية وجمالية جزءا مهما من هذه الأعمال الأدبية والفنية، ومنها فيلم ( حيفا ) للمخرج الفلسطيني رشيد المشهراوي، ومن أشهر الأعمال الشعرية ديوان ( حيفا في سواد العيون ) للشاعر حسن البحيري.
هذه الأعمال وغيرها الكثير، جعل من هذه المدينة مكانا لأحداث إبداعاته بنزفها وصمودها، ومنهم من جعلها شمسا يدور في فلكها في كثير من أعماله. وقد حملت في مفرداتها حنينا واشتياق إلى الوطن المحتل، وحاولت تهيئة النفوس لاسترداد ما ضاع من أوطان، عبر بث روح الأمل تارة وتذكير الأجيال بالكارثة التي أصابت هذه المدينة عبر الاحتلال.
ولعل مثل هذه الأعمال الفنية والأدبية تشكل في الوقت الحالي إحراجا لأطراف فلسطينية وعربية، تطالب الفلسطينيين أن يقبلوا بالتوطين أينما كانوا، أو العودة للسكن في بعض مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن هنا صار لمثل هذه الأعمال أهمية مضاعفة في وقتنا الحاضر، خاصة وهي تبرز المكان في عنوانها ومعظم تفاصيلها لتكون شاهد إثبات أن الوجدان الفلسطيني المسكون بجرح التاريخ وعبق الأجداد وقداسة القضية وعدالتها يستمد روحا مضاعفة في معركته من كل المكونات الموجودة في ساحة المعركة، ثقافية كانت أم فنية أم تاريخية، وهو بهذا يتيح للجميع أن يشارك من خلال موقعه وإمكانياته في معركة العودة لأنها معركة المكان والحق والعدالة والتاريخ.
* كنفاني… عودة هل تكتمل؟
الكاتب والأديب الراحل غسان كنفاني، والذي استشهد في الثامن من تموز عام 1972، عندما فجر الموساد الإسرائيلي سيارته في بيروت، يمثل نموذجا للأديب والسياسي والكاتب، وبالإضافة إلى موهبته وقلمه الإبداعي المتميز فلقد مثل مولد الكاتب في مدينة عكا في عام الإضراب الشهير سنة 1936، وعيشه في يافا ثم اضطراره للنزوح عن وطنه بعد نكبة 1948، كل هذا شكل مخزونا تاريخيا مريرا كان واضحا في كتاباته النثرية من مقالات في الصحف المختلفة التي عمل بها، أو عبر رواياته وقصصه، وأيضا في سطور دراساته المهمة عن أدب المقاومة في فلسطين والأدب الصهيوني.
لقد تفجر القلم عند كنفاني حقيقة حين تفجرت العبوة في سيارته، فحادثة الاغتيال سلطت الضوء على أعماله بشكل أكبر، وكان اغتيال أديب لم يحمل السلاح يوما، مناسبة لنشطاء المقاومة الفلسطينية، للإشارة إلى أن الاغتيالات الإسرائيلية لا تفرق بين سياسي وعسكري وبين صاحب قلم وحامل بندقية مثلما قال الكاتب أسامة العيسة في مقال له عن الأديب الراحل.
وبعد … فالسؤال الذي يكاد يعلو صوته في نهاية هذه الوقفة يتجلى في أمر واحد ألا وهو هل استطاع كنفاني أن يوصل رسالته التي أراد؟
وهل اقتربنا معه إلى العودة، أم ابتعدت بنا السياسة هذه الأيام بعيدا عن شواطئ حيفا ودروبها؟؟
لا شك أن عودة جسدية لم تكتب للأديب الشهيد، غير أنّ وصول روايته إلى هذا المستوى العالي من الاهتمام يشكل عودة روحية على طريق الوطن السليب.
كتبهاسمير عطية
\\\\\\\\\\\\\\
القاهرة ـ اسامة عبدالصبور
إحدى روائع كتابات الروائي المناضل الشهيد غسان كنفاني، وقد سبق أن تعرّفت على موضوعها من قبل من خلال المسلسل التلفزيوني "عائد إلى حيفا" وقد جذبني إليها موضوعها الشيق وطابعها العروبي المناضل، وما عرضت له من أفكار، على أنّ القراءة في الرواية له متعة أدبية أكبر، لأنها تجعل المرء يغوص مباشرة في ما أراد أن يقوله الروائي غسان كنفاني دون مؤثرات خارجية، فيلمس بعض العبارات، وبعض الأفكار التي أراد لها الوصول إلى القارئ بطريقة مختلفة.
وتحمل روحًا نضالية إضافة إلى أنّها تميط اللثام عن الوجع الفلسطيني الذي يمثل أبطال القصة جزءًا منه، فمعاناة أبطال القصة تكاد تكون أنموذجًا للكثيرين ممن يعيشون هذا الهم، وهذا الوجع.
وتتحدّث الرواية عن مأساة سعيد وزوجته، هذه العائلة التي اضطرّت إلى النزوح مع آلاف الأسر عن مدينة حيفا بعد غزوها من قبل الصهاينة، وتبدو مأساة النزوح عن المدينة بسيطة أمام مأساة هذه العائلة التي لم تتمكن من إحضار ابنها من المنزل، وهو في الشهر الخامس من عمره، تُرك وحيدًا في المنزل، إلى أن قُدّم هدية ثمينة مع المنزل إلى إحدى الأسر اليهودية، أمّا العائلة المفجوعة فقد عاشت مع مأساتها وجعها أعوامًا طويلة، وعندما فُتح باب العودة إلى المدينة بعد مرور عشرين عام، قرّر سعيد وزوجته العودة إلى حيفا، وعند ما عادوا إلى هناك، وجدوا أنّ منزلهم أصبح بيتًا إلى عائلة يهودية، وابنهم "خلدون" أصبح إبنًا لتلك العائلة اليهودية، وتربّى على أيديهم، وتشرّب عقائدهم إلى حد الثمالة، إلى حد رفض معه الإعتراف بأصله العربي، وتنكّر إلى جذوره مُعلنًا أنّه يقف في الجانب الآخر من المواجهة، وترك هذا الأمر صدى قويًا في نفس سعيد الذي كان يعارض انخراط ابنه الشاب الذي تركه في "رام الله" في المقاومة ضد المحتلّين، أمّا الآن فقد أصبح هذا الأمر أمنية عزيزة وبعيدة المنال.
في هذه الرواية، يرسم غسان كنفاني الوعي الجديد الذي بدأ يتبلور بعد هزيمة 67، العائد إلى مدينته التي ترك فيها طفله يكتشف أنّ الإنسان هو قضية، وأنّ فلسطين ليست استعادة للذكريات، بل هي صناعة للمستقبل.
"مأساة سعيد ومأساة الوطن الغائب تنكشف هنا كلحظة ارتطام بالحقيقة، "فعائد إلى حيفا"، هي بحث عن الحقيقة وقد شكلته درامية الهزيمة، فالخيار ليس بين الإبن الذي فُقد والإبن الذي بقى، بل هو خيار أن يتمرد الإبن على الأب ليصنع الحاضر ويعطي الماضي صورته المختلفة".
ولعل هذه العبارات الموجودة على غلاف رواية "عائد إلى حيفا" هي خير تعبير عن ما كان يرمي إليه الروائي من خلال روايته، فغسان كنفاني الذي عاش كلاجئ يحلم بالعودة، وكمناضل سخّر طاقاته من أجل رسم أحلام العودة إلى بلده، فقد صاغها وفقًا لرؤيته التي كان يتطلع إليها، والتي مارسها فعلًا وقولًا حتى كانت السبب في دفع حياته ثمنًا لها فقضى شهيدًا.
ورواية "عائد إلى حيفا" هي نموذج من كتابات الشهيد "غسان كنفاني" فقد تميّز بأنّه من روّاد الأدب المقاوم، بحيث كانت رواياته تلقى صدى طيبًا لدى المخرجين واختير عدد منها كأعمال فنية مصورة مثل "عائد إلى حيفا" وفيلم "السكين" عن رواية "ما تبقى لكم" وفيلم "المخدوعون" عن رواية "رجال تحت الشمس".
ويبدأ الكاتب روايته برحلة عودة سعيد بسيارته مع زوجته صفية، ويصف مشاعر التوتر والقلق التي كانت تجتاحهما وهما في طريقهما إلى حيفا بعد أن سمح العدو للفلسطينين بالدخول إليها بعد عشرين عامًا من احتلاله لها.
ولطالما حلم بهذه العودة، وهنا يعبر عن حلم كل لاجئ فلسطيني أجبر على ترك بيته وأرضه، وهو إضافةً إلى ذلك أجبر على ترك ابنه "خلدون" بحيث لم يتمكن من الوصول إلى المنزل لاصطحابه معه في رحلة الهجرة الطويلة، ولكنه لا يتأخر عن وصف مشاعر المهانة التي يشعر بها وهو في طريق العودة، فعند ما قالت له زوجته "لم أكن أتصور أبدًا أنني سأراها مرة أخرى" أجابها "أنت لا ترينها، إنهم يرونها لك" فهي أصبحت محتلة، وأصبحت كما يريدها الإحتلال، وليس كما يجب أن تكون، السخط والغضب يبدوان واضحين في حوار "سعيد"، والتعبير عن رفضه إلى هذا الإحتلال المذل والمهين يريد الكاتب منه توصيف مشاعر الفلسطينيين ومعاناتهم المُرّة، ولكنها رحلة لا بدّ منها، فالمشاعر القوية التي تشدّهم إلى مدينتهم أقوى من أن تقاوم، إضافةً إلى حلم يروادهم بإيجاد ابنهم "خلدون" الذي أصبح شابًا، فهو ما زال يعيش في أحلامهم، ويرغبون باستعادته.
وما زالا يحفظا الأماكن والأسماء، وإن استبدلوها بأسماء أخرى، فما زالت هي هي بالنسبة إليهما، فاحتلال الأرض وتغيير الأسماء لا يغير واقعها، ولا يسقط ملكيتهم لها، ولا يفقدهم الحق فيها، فهي ستبقى كما كانت في السابق بالنسبة إليه، وإن كان واقع القوة والتسلط والقهر يفرض واقعًا غير هذا، وهذا يعبّر عن رغبة الفلسطيني في التمسك بأرضه، وسعيه إلى العودة إليها، وحلمه بأن يتمكن من تغيير هذا الواقع المرير.
وفي طريق العودة تنفلت الذاكرة، وتعود إلى الماضي، ليصف لنا الكاتب مأساة لحظات الفرار من بطش العدو بكل قسوتها، لحظات مرة تعيش مع الزمن، فلا تدفن، بل تبقى تطرق وجدانهم في كل لحظة، لتكون مأساة مستمرة لا تنقطع.
ويصف الكاتب الحرقة واللوعة لتلك اللحظات التي دُفعوا فيها إلى الهجرة دفعًا في مشهد آخر لصفية فيقول "لم تكن كلماتها الطائرة فوق ذلك الزحام الذي لا ينتهي لتصل إلى أي أذن، لقد ردّدت كلمة "خلدون" ألف مرة، مليون مرة، وظلت شهورًا بعد ذلك تحمل في فمها صوتًا مبحوحًا مجرحًا لا يكاد يسمع، وظلّت كلمة "خلدون" نقطة واحدة لا غير، تعوم ضائعة وسط ذلك التدافق اللانهائي من الأصوات والأسماء".
هذا المشهد وإن كان يعبر عن لوعة أم مكلومة اضطرت إلى ترك ابنها ولم تعد قادرة على الوصول إليه بسبب سد كل المنافذ والطرق في وجهها، إلاّ أنّه يعبّر أيضًا عن مشهدية الهجرة القاسية التي اضطر إليها هؤلاء الفلسطينيون، فصوتها لا يسمع من شدة الزحام، فالناس في حالة ذهول وضياع، يدفعون في إتجاه واحد هو الهجرة وترك منازلهم ومدينتهم، وصفية وخلدون وسعيد هم رقم بين هؤلاء الأرقام، ومأساة عائلة هي مأساة كل عائلة هجّرت عن أرضها ظلمًا وعدوانًا.
وقد أبدع الكاتب في استخدام الزمن، من خلال تقنية الإسترجاع ليربط بين الماضي والحاضر، ليوضح رؤية الأمور للقارئ من خلال رؤيته هو، هو يريد أن يوصل هذا القارئ إلى الرؤيا التي يريدها هو من خلال عملية السرد المميز.
فبعد أن عاد بذاكرته عشرين عامًا إلى الوراء، ليعلمنا كيف كان الخروج القسري من مدينة حيفا، وكيف دُفع الناس إلى ذلك وهم في ذهول من ما يجري، وهم لا حول لهم ولا قوة، يعود إلى الواقع حيث كان يقود سيارته في إتجاه هذه المدينة بعد أن مضى على احتلالها عشرون عامًا، عاد بالزمن بضعة أيام ليخبرنا كيف تبلور مشروع رحلة العودة، مع ما رافق ذلك من آلام، وحلم كان يدرك أنه سيبقى مجرد حلم، فحيفا لم تعد لهم، فماذا سيجدون هناك.
يتحدُث الكاتب عن الحنين والمشاعر الدفينة التي تفجّرت في نفس سعيد وزوجته، وهما يتجولان في شوارع المدينة التي عاشوا فيها ردحًا من الزمن، ليوصلنا إلى مدى الحسرة التي يمكن أن يشعر بها المرء في مثل هذه الحالة، وقد نجح الكاتب بشكل كبير في إيصال هذه المشاعر إلينا، وعند ما وقفا أمام باب منزلهم القديم قال لزوجته "غيروا الجرس" ثم أردف "والإسم طبعًا" وكأنّه أراد أن يقول لها هذا لم يعد بيتنا، بل أصبح ملكًا لأشخاص آخرين، وهذا لم يكن مفاجئًا بالنسبة إليه، بل كان يدركه في أعماقه، وها هو يعترف به الآن بعد أن رآه حقيقة واقعة، فما للفلسطينيين لم يعد لهم، وإنّ ما استولى عليه هؤلاء الأشرار بقوة السلاح والتطرف.
وعندما دخلا إلى المنزل، كانا ضيوفًا عند تلك المرأة التي استقبلتهم، وهي تدرك أنّها في موقع القوة، وهما في موقع الضعف، ولكن ذلك الحنين دفعهما إلى تحمّل هذا الشعور القاسي، ودفعهم إلى التأمل أكثر في الأشياء التي يحتويها هذا المنزل، والتي لم يطرأ عليها تغيير كبير، فهؤلاء الغرباء الذين أتوا من أماكن بعيدة، ما زالوا يستعملون أغراضهم وأشياءهم بعد أن استولوا على منزلهم، فأي ظلم أشنع من هذا الظلم، أن يرى الإنسان أغراضه وأشياءه في يد عدوه، يتنعّم بها، في حين أنّه هو يعاني من التشرد والضياع.
ولقد نجح الكاتب في إيصال كل ذلك إلينا من خلال عباراته وتوصيفاته التي لامست وجه الحقيقة بكل ما تحويه من ألم ومأساة.
ويعود الكاتب إلى تأكيد رؤيته بأنّ سعيد (ويعني به كل فلسطيني) قد أخطأ في ترك بيته، أيًا يكن السبب الضاغط الذي دعاه إلى ذلك، وهذا باعتراف صريح من سعيد عند ما قال لصفية: "بلى، كان علينا أن لا نترك شيئًا، خلدون، والمنزل، وحيفا! ألم ينتابك ذلك الشعور الذي انتابني وأنا أسوق سيارتي في شوارع حيفا؟ كيف أشعر أنني أعرفها وأنها تنكرني، وجاءني نفس الشعور وأنا في البيت، هنا، هذا بيتنا! هل تتصورين ذلك إنه ينكرنا! ألا ينتابك هذا الشعور! إنني أعتقد أنّ الأمر نفسه سيحدث مع خلدون .. وسترين!".
لعل هذا نوع من مؤاخذة النفس، والندم على القرار الذي أتُخذ سابقًا بالهجرة، حتى لو كانت هجرة قسرية، فالكاتب يرى أنه لا بد من التشبث بالأرض والبيت والولد تحت أي ظرف، حتى لا تنكره هذه الأشياء، يجب أن يحميها ويتشبث بها حتى لو دفع دمه مقابل ذلك، هذه هي القناعة التي توصّل إليها سعيد بعد مضي كل تلك السنين، وهي الحقيقة التي أراد إيصالها لنا الكاتب من خلال رؤيته للأمور.
ويعود "خلدون" إلى المنزل وهما ينتظرانه على أحر من الجمر، لكن الذي عاد إلى المنزل لم يعد "خلدون" بل "دوف الصهيوني" الذي تشرب العقيدة الصهيونية حتى الثمالة، فماذا سيعني له هذان الأبوان العربيان؟
عاد "دوف" بالبذلة العسكرية التي طالما روّعت الفلسطينيين وأبكتهم، فكان لعودته بالبذلة العسكرية رمزية كبيرة، وهذه الرمزية تدلّ على أنّ هذا الشاب "دوف" منخرط في عملية الصراع مع الفلسطينيين إلى أبعد حدود، فقد عاد بكل صلافة وتحجّر وتحدٍّ، وكل ما يعنيه هو ما تربّى عليه من الحقد تجاه العرب بشكل عام، والفلسطينيين بشكل خاص، جذوره كعربي ومولود من أب وأم فلسطينيين لا يعنيه البتة، ولا يريد حتى التعرّف إلى هذه الجذور، فهو صهيوني تربى على أيدي الصهاينة.
تبدو هذه المواجهة من أصعب ما يكون، لكن الكاتب ألبسها وجهها الحقيقي، عند ما أكّد من خلال الحوار الذي دار بين سعيد و"دوف" الذي كان يجب أن يكون ابنه بأنّ الإنسان هو القضية، وما يحمل من فكر، وما يتشرب من تربية، ولا يهم إذا كان ولد من أب عربي أو أجنبي، وهذا ما حدث مع سعيد وابنه.
وهنا يضعنا الكاتب غسان كنفاني أمام مفارقة تاريخية جارحة، أنّ الحق لو ترك قد يتحول من قوة دفاع إلى أساليب تدمير لو سقطت بيد العدو في غفلة منا، عندها تصبح مسألة استعادة حقوقنا مواجهة مع أنفسنا قبل أن تكون صدامًا مع العدو، فسعيد بعد هذه المواجهة سيعيد حساباته، ويبدل نظرته لما كان يحيا فيه، ويتأكد من أمور لم تكن حتى الآن قد وضحت لديه، وستتغير رؤيته إلى الماضي والحاضر والمستقبل، فقد أصبح قادرًا على إتخاذ القرار المصيري الذي كان يهرب منه، وهو حتمية المواجهة والمقاومة.
ولعل أهم ما توصّل إليه الكاتب في هذه الرواية هو أنه عند ما صدم سعيد بصلافة ابنه المفقود "دوف" أحسّ بخطئه عند ما منع ابنه "خالد" من الإلتحاق بالمقاومة الفدائية التي تسعى إلى تحرير الأرض، خوفًا عليه من الموت، لكنه يدرك الآن أن هذا الموت لن يكون موتًا بل شهادة عزيزة تستعيد الوطن من هؤلاء المجرمين المستشرسين في صراعهم على هذه الأرض، تلك المواجهة دفعته ليقول إلى زوجته وهم يغادرون "أرجو أن يكون خالد قد ذهب.. أثناء غيابنا" ومعارضته إلى التحاق ابنه بركب الفدائيين المقاومين إلى هذا الإحتلال تحوّلت إلى أمنية عزيزة".
هنا تبدو رؤية الكاتب واضحة بكل جلاء ولا لبس فيها، فما أخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة، هذه هي القناعة التي أراد أن يوصلها الروائي غسان كنفاني إلى كل من يقرأ روايته، إلى كل من يهتم بأمر العودة، لتكون العودة شريفة وعزيزة وليست مليئة بالذل والمهانة، فبالمقاومة وحدها تسترد الأرض والدور، وبالمقاومة وحدها يسترد الفلسطيني كرامته وعزّته.
تعليقات
إرسال تعليق