القائمة الرئيسية

الصفحات

أخبار الرياضة

ابن المعلم


عيناه شاخصتان على صورة الجدار، ولفافته تحيل الغرفة إلى بحيرة من دخان حار يتصاعد من فمه (هو الفم نفسه الذي كان يدخن الروثمان فيما مضى).
تدور الدقائق... تدور الساعات، ومعها يدور رأسه كطوف احتوته دوامة بحرية... يدور... ويدور... ومامن طريق.
ـ ماما العيد بعد غد فمتى تشترون لي القميص. 
ـ سيشتريه بابا غداً.
يأتيه صوت طفله من الغرفة المجاورة كزخة رصاص، فيحدث دويه المصدع في رأسه ويزيد من ترنحه. 
تزداد عيناه اقتراباً من الصورة التي أمامه تلتصقان بالصبي الواقف خلف زجاجتها بأبهة أبناء السلاطين (أبوه معلم في مدرسة ابتدائية فلماذا لا يقف هكذا؟)، تدققان في تفاحة وجهه الناضجة، في الشعر الأسود المصفف شمالاً بتسريحة خنفسية، في ابتسامة العيد المنتشرة فوق لآلئ فمه، ثم تنزلان إلى البدلة الحريرية الزرقاء.
تتفحص ذاكرته نسيج البدلة فلا تجد أثراً للثقوب أو الخدوش فيه، يلفت انتباهه جيب السترة اليمين إنه منتفخ بشكل واضح... فيهم بالبحث عن سبب الانتفاخ، لكن رنين دراهم العيد يعلن عن السبب فتندفع من الفم موجة كثيفة جداً وطويلة جداً من الدخان الحار. 
ـ لكن يا ماما كنت قد قلت هذا الكلام في العيد الماضي ولم يشتر لي بابا القميص؟..
ـ لا.. هذه المرة سيشتريه يا حبيبي.
تعض أسنانه على حافة اللفافة بقوة حين يسمع السؤال، فتتثلم، ويسقط تبغها في فمه... حاراً يسقط، ومراً، يلوكه بعنف حتى ينتشر في كل الفم، ثم يبتلع المرارة دفعة واحدة ويملأ بها جوفه.
مامن طريق!
منذ أسبوع يفكر بالوصول إلى محال الملابس... ومامن طريق!..
ابن المعلم الذي عاش طفولة طاووسية في أعياده القديمة، يتلفت في الغرفة يميناً وشمالاً فلا يجد أي أثاث فيها: لا (كنبة)، لا ثلاجة لا سرير نوم، سوى خزانة ملابس واحدة نضدت فوقها ما تبقت لديه من أفرشة.
يتحسس بنصره الأيسر، فلا يجد فيه حلقة من ذهب، يمسح جسد زوجته الجالسة مع طفلها في الغرفة الأخرى، لعله يعثر في أذنيها أو صدرها أو معصميها أو حتى بنصرها الأيسر على بريق الذهب الذي نثره عليها في زمن الخطوبة، لكنه لا يعثر إلا على جسد خال باع كل ذهبه تباعاً واشترى به خبزاً فقط.
يندفع الدخان من صدره باتجاه عينيه (دخان أعماقه المشتعلة)، يتكاثف متراكماً على بعضه متحولاً إلى ماء ساخن، يقف الماء الساخن عند حدود الأجفان منتظراً رمشة واحدة لينهمر بغزارة.
ـ لحظة يا عبد العزيز. تماسك، وأطبق رمشيك على بعضهما، احبس ماء رجولتك ولا تريقه على الأرض أمام زوجتك، مازال لديك ما يحفظ قيمتك أمامها، خذ.. هذا حرير طفولتك، أنزله من على الجدار، واذهب به إلى السوق واشتر لابنك بثمنه قميصاً.
كانت الصورة تهتز وهي تكلمه، يندفع زجاجها العريض وإطارها الأبنوسي إلى الأمام. وينزل صبيها إلى الأرض باسماً ثم يتسلل هو وبدلته ودراهم العيد إلى إحدى خانات الخزانة لينام مع الذكريات المحفوظة فيها وسط العتمة.
بعد دقائق زلزاليه، نزلت زجاجة الصورة العريضة، ونزل إطارها الثمين من جدار عزه، وبالخلسة والأسى ذاته الذي تسلل فيهما الصبي إلى الخزانة، تسلل عبد العزيز إلى السوق، تاركاً على الجدار مسمار الصورة فقط، ينتظره هناك، حتى إذا ما عاد بالقميص لابنه قفز المسمار من مكانه وانغرز في أعماق قلبه إلى الأبد.

تعليقات