قصة اَلْهَاوِيَة من كتاب
اَلْعَبَرَات للكاتب مُصْطَفَى لُطْفِيّ اَلْمَنْفَلُوطِيّ
اَلْهَاوِيَة
مَوْضُوعَة
مَا أَكْثَرَ أَيَّام اَلْحَيَاة وَمَا اِقْلِهَا ? لَمْ أَعِشْ مِنْ تِلْكَ
اَلْأَعْوَام اَلطِّوَال اَلَّتِي عِشْتهَا فيهذا اَلْعَالَم إِلَّا عَامًا
وَاحِدًا مُرّ بِي كَمَا يَمُرّ اَلنَّجْم اَلدَّهْرِيّ فِي مَسَاء اَلدُّنْيَا
لَيْلَة وَاحِدَة ثُمَّ لَا يَرَاهُ اَلنَّاس بَعْد ذَلِكَ.
قَضَيْت اَلشَّطْر اَلْأَوَّل مِنْ حَيَاتِي أُفَتِّش عَنْ صَدِيق يَنْظُر إِلَى
أَصْدِقَائِهِ بِعَيْن غَيْر اَلْعَيْن اَلَّتِي يُنِرْ بِهَا اَلتَّاجِر إِلَى
سِلْعَته وَالزَّارِع إِلَى مَاشِيَته فأعوزني ذَلِكَ حتي عَرَفَتْ فَلَانَا
مُنْذُ ثَمَانِي عَشْرَة عَامًا فَعَرَفَتْ اِمْرَأ مَا شِئْت أَنْ أَرَى خلة مِنْ
خِلَال اَلْخَبَر وَالْمَعْرُوف فِي ثِيَاب رَجُل إِلَّا وَجَدْتهَا فِيهِ وَلَا
تَخَلَّيْت صُورَة مِنْ صُوَر اَلْكَمَال اَلْإِنْسَانِيّ فِي وَجْه إِنْسَان
إِلَّا أَضَاءَتْ لِي فِي وَجْهه فَجَلَتْ مَكَانَته عِنْدِي وَنَزَلَ مِنْ
نَفْسَيْ مَنْزِلَة لَمْ يَنْزِلهَا أَحَد مِنْ قَبْله وَصَفَتْ كَأْس اَلْوِدّ
بَيْنِي وَبَيْنه لَا يُكَدِّرهَا عَلَيْنَا مُكَدَّر حَتَّى عُرِّضَ إِلَى مَنْ
حَوَادِث اَلدَّهْر مَا أَزْعَجَنِي مِنْ مُسْتَقَرِّي فَهَجَرَتْ اَلْقَاهِرَة
إِلَى مَسْقَط رَاسِي غَيْر أَسَف عَلَى شَيْء فِيهَا إِلَّا عَلَى فِرَاق ذَلِكَ
اَلصَّدِيق اَلْكَرِيم فَتُرَاسِلنَا حِقْبَة مِنْ اَلزَّمَن ثُمَّ فَتَرَتْ
عَيْنَيْ كُتُبه ثُمَّ اِنْقَطَعَتْ فَحَزِنَتْ لِذَلِكَ حُزْنًا شَدِيدًا
وَذَهَبَتْ بِي اَلظُّنُون فِي شا ; هـ كُلّ مَذْهَب إِلَّا أَنْ أَرْتَاب فِي
صِدْقه وَوَفَائِهِ وَكُنْت كَمَا هَمَمْت بِالْمُسَيَّرِ إِلَيْهِ لِتَعْرِف
حَاله قَعَدَ بِي عَنْ ذَلِكَ هُمْ كَانَ يُقْعِدنِي عَنْ كُلّ شَأْن
حَتَّى شَأْن
نَفْسِيّ فَلَمْ أَعُدْ إِلَى لِقَاهِرَة إِلَّا بَعْد أَعْوَام فَكَانَ أَوَّل
هَمِّي يَوْم هَبَطَتْ أَرْضهَا أَنْ أَرَاهُ فَذَهَبَتْ إِلَى مَنْزِله فِي
اَلسَّاعَة اَلْأَوْلَى مِنْ اَللَّيْل فَرَأَيْت مَا لَا تَزَال حَسْرَته
مُتَّصِلَة بِقَلْبِي حَتَّى اَلْيَوْم.
تَرَكَتْ هَذَا اَلْمَنْزِل فِرْدَوْسًا صَغِيرًا مَنَّ فراديس اَلْجِنَان
تَتَرَاءَى فِيهِ اَلسَّعَادَة فِي أَلْوَانهَا اَلْمُخْتَلِفَة وَتَتَرَقْرَق
وُجُوه سَاكِنِيهِ بِشْرًا وَسُرُورًا ثُمَّ زُرْته اَلْيَوْم فَخُيِّلَ إِلَيَّ
أَنَّنِي أَمَام مَقْبَرَة مُوحِشَة سَاكِنَة لَا يعتف فِيهَا صَوْت وَلَا
يَتَرَاءَى فِي جَوَانِبهَا شَبَح وَلَا يَلْمَع فِي أَرْجَائِهَا مِصْبَاح فَظَنَنْت
أَنِّي أَخْطَأْت اَلْمَنْزِل اَلَّذِي أُرِيدهُ أَوْ أَنَّنِي بَيْن يَدَيْ
مَنْزِل مَهْجُور حَتَّى سَمِعَتْ بُكَاء طِفْل صَغِير وَلَمَّحَتْ فِي بَعْض
اَلنَّوَافِذ نُورًا ضَعِيفًا فَمَشَيْت إِلَى اَلْبَاب فَطَرَقَتْهُ فَلَمْ
يُجَنِّبنِي أَحَد فَطَرَقَتْهُ أُخْرَى فَلَمَحَتْ مِنْ خصاصه نُورًا مُقْبِلًا
ثُمَّ لَمْ يَلْبَث أَنْ اِنْفَرَجَ لِي عَنْ وَجْه غُلَام صَغِير فِي أَسْمَال
بَالِيَة يَحْمِل فِي يَده مِصْبَاحًا ضَئِيلًا فَتَأَمَّلَتْهُ عَلَى ضَوْء
اَلْمِصْبَاح فَرَأَيْت فِي وَجْهه صُورَة أَبِيهِ فَعَرَفَتْ أَنَّهُ لَك
اَلطِّفْل اَلْجَمِيل اَلْمُدَلَّل اَلَّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ زَهْرَة هَذَا
اَلْمَنْزِل وَبَدْر سَمَائِهِ فَسَأَلَتْهُ عَنْ أَبِيهِ فَأَشَارَ إِلَيَّ
بِالدُّخُولِ وَمَشَى أَمَامِيّ بِمُصَاحِبِهِ حَتَّى وَصَلَ بِي إِلَى فَأَشَارَ
إِلَى بِالدُّخُولِ وَمَشَى أَمَامِيّ بِالْإِغْوَاءِ حَتَّى وَصَلَ بِي إِلَيَّ
قَاعَة شَعْثَاء مُغْبَرَّة بَالِيَة اَلْمَقَاعِد وَالْأَسْتَار وَلَوْلَا نُقُوش
لَاحَتْ لِي فِي بَعْض جُدْرَانهَا كَبَاقِي اَلْوَشْم فِي ظَاهِر اَلْيَد مَا
عَرَفَتْ أَنَّهَا اَلْقَاعَة اَلَّتِي قَضَيْنَا فِيهَا لَيَالِي اَلسَّعَادَة
وَالْهَنَاء اِثْنَيْ عَشَر هِلَالًا ثُمَّ جَرَى بَيْنِي وَبَيْن اَلْغُلَام
حَدِيث قَصِير عُرِفَ فِيهِ مَنْ أَنَا وَعَرَفَتْ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَعُدْ
إِلَى اَلْمَنْزِل حَتَّى اَلسَّاعَة وَأَنَّهُ عَائِد عَمَّا قَلِيل ثُمَّ
تَرَكَنِي وَمَضَى وَمَا لِيَبُثّ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى عَادَ يَقُول لِي إِنَّ
وَالِدَته تُرِيد أَنْ تُحَدِّثنِي حَدِيثًا يَتَعَلَّق بِأَبِيهِ فَخَفْق
قَلْبِيّ خَفْقَة
اَلرُّعْب
وَالْخَوْف وَأَحْسَسْت بِشَرّ لَا أَعْرِف مأتاه ثُمَّ اِلْتَفَّتْ فَإِذَا
اِمْرَأَة مُلْتَفَّة بِرِدَاء أَسْوَد وَاقِفَة عَلَى عَتَبَة اَلْبَاب
فَحَيَّتْنِي فحييتها ثُمَّ قَالَتْ لِي هَلْ عَلِمَتْ مَا صَنَعَ اَلدَّهْر
بِفُلَان مَنْ بَعَّدَك قُلْت لَا فَهَذَا أَوَّل يَوْم هَبَطَتْ فِيهِ هَذَا
اَلْبَلَد بَعْد مَا فَارَقَتْهُ سَبْعَة أَعْوَام قَالَتْ لَيْتَك لَمْ
تُفَارِقهُ فَقَدْ كُنْت عِصْمَته اَلَّتِي يَعْتَصِم بِهَا وَحِمَاهُ مِنْ غوائل
اَلدَّهْر وَشُرُوره فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ فَارَقَتْهُ حَتَّى أَحَاطَتْ بِهِ
زُمْرَة مِنْ زَمْر اَلشَّيْطَان وَكَانَ فَنِّيّ كَمَا تُعَلِّمهُ غريرا سَاذَجًا
فَمَا زَالَتْ تُغْرِيه بِالشَّرِّ وَتَرَيْنَ لَهُ مِنْهُ مَا يُزَيِّن
اَلشَّيْطَان لِلْإِنْسَانِ حَتَّى سَقَطَ فِيهَا فَسَقَطْنَا جَمِيعًا فِي هَذَا
اَلشَّقَاء اَلَّذِي تَرَاهُ قُلْت وَأَيّ شَرّ تُرِيدِينَ يَا سَيِّدَتِي وَمَنْ
هُمْ اَلَّذِينَ أَحَاطُوا بِهِ بِالْإِغْوَاءِ قَالَتْ سَأَقُصُّ عَلَيْك كُلّ
شَيْء فَاسْتَمِعْ لِمَا أَقُول:
مَا زَالَ اَلرَّجُل بِخَيْر اِتَّصَلَ بِفُلَان رَئِيس دِيوَانه وَعُلِّقَتْ
حِبَاله وَأَصْبَحَ مِنْ خَاصَّته اَلَّذِينَ لَا يُفَارِقُونَ مَجْلِسه حَيْثُ
كَانَ وَلَا تَزَال نِعَالهمْ خَافِقَة وَرَاءَهُ فِي غدواته وروحاته فَاسْتَحَالَ
مِنْ ذَلِكَ اَلْيَوْم أَمْره وَتَنَكَّرَتْ صُورَة أخلافه وَأَصْبَحَ مُنْقَطِعًا
عَنْ أَهْله وَأَوْلَاده لَا يَرَاهُمْ إِلَّا اَلْفَنِّيَّة بَعْد اَلْفَنِّيَّة
وَعَنْ مَنْزِله لَا يَزُورهُ إِلَّا فِي أُخْرَيَات اَللَّيَالِي وَلَقَدْ
اِغْتَبَطَتْ فِي مَبْدَأ اَلْأَمْر بِتِلْكَ اَلْحُظْوَة اَلَّتِي نَالَهَا عِنْد
ذَلِكَ اَلرَّئِيس وَالْمَنْزِلَة اَلَّتِي نَالَهَا مِنْ نَفْسه وَرَجَوْت لَهُ
مِنْ وَرَائِهَا خَيْرًا كَثِيرًا مغتفرة فِي سَبِيل ذَلِكَ مَا كُنْت أَشْعُر
بِهِ مِنْ اَلْوَحْشَة وَالْأَلَم لِانْقِطَاعِهِ عَنِّي وَإِغْفَاله أَمْرِي
وَأَمْر أَوْلَاده حَتَّى عَادَ فِي لَيْلَة مِنْ اَللَّيَالِي شَاكِيًا
مُتَأَلِّمًا يُكَابِد غصصا شَدِيدَة وَآلَامًا جِسَامًا فَدَنَوْت مِنْهُ فَشَمَمْت
مِنْ فَمه رَائِحَة اَلْخَمْر
فَعَلِمَتْ
كُلّ شَيْء.
عَلِمَتْ أَنَّ ذَلِكَ اَلرَّئِيس اَلْعَظِيم هُوَ قُدْوَة مَرْءُوسِيهِ فِي
اَلْخَيْر إِنْ سَلَكَ طَرِيق اَلْخَيْر وَالشَّرّ إِنْ سَلَكَ طَرِيق اَلشَّرّ
قَادَ زَوْجِي اَلْفَتِيّ اَلْمِسْكِين إِلَى شَرّ اَلطَّرِيقَيْنِ وَسَلَكَ بِهِ
أَسْوَأ اَلسَّبِيلَيْنِ وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَتَّخِذهُ صَدِيقًا كَمَا زَعَمَ
بَلْ نَدِيمًا عَلَى اَلشَّرَاب فَتَوَسَّلَتْ إِلَيْهِ بِكُلّ عَزِيز عَلَيْهِ
وَسَكَبَتْ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ اَلدُّمُوع كُلّ مَا تَسْتَطِيع أَنْ تَسْكُبهُ
عَيْن رَجَاء أَنْ يَعُود إِلَى حَيَاته اَلْأُولَى اَلَّتِي كَانَ يحياها
سَعِيدًا بَيْن أَهْله وَأَوْلَاده فَمَا أَجْدَيْت عَلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ
عَلِمَتْ بَعْد ذَلِكَ أَنَّ اَلْيَد اَلَّتِي سَاقَتْهُ إِلَى اَلشَّرَاب قَدْ
سَاقَتْهُ إِلَى اَللَّعِب فَلَمْ أَعْجَب لِذَلِكَ لِأَنِّي أَعْلَم أَنَّ طَرِيق
اَلشَّرّ وَاحِدَة فَمَنْ وَقَفَ عَلَى رَأْسهَا لَابُدَّ لَهُ أَنْ يَنْحَدِر
فِيهَا حَتَّى يَصِل إِلَى نِهَايَتهَا فَأَصْبَحَ ذَلِكَ اَلْفَنِّيّ اَلنَّبِيل
اَلشَّرِيف اَلَّذِي كَانَ يَعِفّ بِالْأَمْسِ عَنْ شُرْب اَلدَّوَاء إِذَا
اِشْتَمَّ فِيهِ رَائِحَة اَلنَّبِيذ وَيَسْتَحِي أَنْ يَجْلِس فِي مُجْتَمَع
يَجْلِس فِيهِ قَوْم شَارِبُونَ سِكِّيرًا مُقَامِرًا مُسْتَهْتِرًا لَا
بِالْإِغْوَاءِ وَلَا يتلوم وَلَا يُبْقِي عَارًا وَلَا مأثما وَأَصْبَحَ ذَلِكَ
اَلْأَب اَلرَّحِيم وَالزَّوْج اَلْكَرِيم اَلَّذِي كَانَ يَضَنّ بِأَوْلَادِهِ
أَنْ يُعَلِّق بِهِمْ الذر وَبِزَوْجِهِ أَنْ يَتَهَجَّم لَهَا وَجْه اَلسَّمَاء
أَبَا قَاسِيًا وَزَوْجًا سَلِيطًا يَضْرِب أَوْلَاده كُلَّمَا دُنُوّ مِنْهُ
وَيَشْتُم زَوْجَته وينتهرها كُلَّمَا رَآهَا وَأَصْبَحَ ذَلِكَ اَلرَّجُل
اَلْغَيُور اَلضَّنِين بِعَرْضِهِ وَشَرَفه لَا يُبَالِي أَنْ يَعُود إِلَى
اَلْمَنْزِل فِي بَعْض اَللَّيَالِي فِي جَمْع مِنْ عشرائه اَلْأَشْرَار فَيَصْعَد
بِهِمْ إِلَى اَلطَّبَقَة اَلَّتِي أَنَام فِيهَا أَنَا وَأَوْلَادِي
فَيَجْلِسُونَ فِي بَعْض غُرَفهَا وَلَا يَزَالُونَ يَشْرَبُونَ وَيَقْصِفُونَ
حَتَّى يَذْهَب بِعُقُولِهِمْ اَلشَّرَاب فيهتاجوا وَيَرْقُصُوا بِالْإِغْوَاءِ
اَلْجَوّ
صُرَاخًا
وَهُتَافًا ثُمَّ يتعادوا بَعْضهمْ وَرَاء فِي الأبهاء وَالْحُجُرَات حَتَّى
يَلِجُوا عَلَى بَاب غُرْفَتِي وَرُبَّمَا حَدَّقَ بَعْضهمْ فِي وَجْهِي أَوْ
حَاوَلَ نَزْع خِمَارِي عَلَى مَرْأَى مِنْ زَوْجِي وَمَسْمَع فَلَا يَقُول
شَيْئًا وَلَا يَسْتَنْكِر أَمْرًا فَأَفِرّ بَيْن أَيْدِيهمْ مِنْ مَكَان إِلَى
مَكَان وَرُبَّمَا فَرَرْت مِنْ اَلْمَنْزِل جَمْعَيْهِ وَخَرَجْت بِلَا إِزَار
وَلَا خِمَار غَيْر إِزَار اَلظَّلَّام وَخِمَاره حَتَّى أَصِل إِلَى بَيْت جَارَة
مِنْ جَارَاتِي فَأَقْضِي عِنْدهمْ بَقِيَّة اَللَّيْل.
وَهُنَا تَغَيَّرَتْ نَغْمَة صَوْتهَا فَأَمْسَكَتْ عَنْ اَلْحَدِيث وَأَطْرَقَتْ
بِرَأْسِهَا فَعَلِمَتْ أَنَّهَا تَبْكِي فَبَكَيْت بَيْنِي وَبَيْن نَفْسِيّ
لِبُكَائِهَا ثُمَّ رَفَتْ رَأْسهَا وَعَادَتْ إِلَى حَدِيثهَا تَقُول: وَمَا هِيَ
إِلَّا أَعْوَام قَلَائِل حَتَّى أَنْفَقَ جَمِيع مَا كَانَ فِي يَده مِنْ
اَلْمَال فَكَّانِ لَابُدَّ لَهُ أَنْ يَسْتَدِين فَفَعَلَ فَأَثْقَلَهُ اَلدَّيْن
فَرَهَنَ فَعَجَزَ عَنْ اَلْوَفَاء فَبَاعَ جَمِيع مَا يَمْلِك حَتَّى هَذَا
اَلْبَيْت اَلَّذِي نَسْكُنهُ وَلَمْ يَبْقَ فِي يَده غَيْر رَاتِبه اَلشَّهْرِيّ
اَلصَّغِير بَلْ لَمْ يَبْقَ فِي يَده شَيْء حَتَّى رَاتِبه لِأَنَّهُ لَا
يَمْلِكهُ إِلَّا سَاعَة مِنْ نَهَار ثُمَّ هُوَ بَعْد ذَلِكَ مِلْك
لِلدَّائِنِينَ أَوْ غَنِيمَة لِلْمُقَامِرِينَ.
هَذَا مَا صَنَعَتْ يَد اَلدَّهْر بِهِ أَمَّا مَا صَنَعَتْ بِي وَبِأَوْلَادِي
فَقَدْ مَرَّ عَلَى آخَر حلية بِعْتهَا مِنْ حَلَّايَ عَام كَامِل وَهَا هِيَ
حَوَانِيت اَلْمُرَابِينَ والمسترهنين مَلْأَى بِمَلَابِسِي وَأَدَوَات بَيْتِي
وَأَثَاثه وَلَوْلَا رِجْل مِنْ ذَوِي بِالْإِغْوَاءِ رَقِيق اَلْحَال يَعُود
عَلَيَّ مِنْ حِين إِلَى حِين بِالنَّزْرِ اَلْقَلِيل مِمَّا يَسْتَلّهُ مِنْ أشداق
عِيَاله لَهَلَكَتْ
وَهَلَكَ
أَوْلَادِي جُوعًا.
فَلَعَلَّك تَسْتَطِيع يَا سَيِّدِي أَنْ تَكُون عَوْنًا لِي عَلَى هَذَا
اَلرَّجُل اَلْمِسْكِين فَتُنْقِذهُ مِنْ شَقَائِهِ وَبَلَائِهِ بِمَا تَرَى لَهُ
فِي ذَلِكَ اَلرَّأْي اَلصَّالِح وَأَحْسَب أَنَّك تَقْدِر مِنْهُ لِلْمَنْزِلَةِ
اَلَّتِي تُنْزِلهَا مِنْ نَفْسه عَلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ اَلنَّاس جَمِيعًا
فَإِنْ فَعَلَتْ أَحْسَنَتْ إِلَيْهِ وَإِلَيْنَا إِحْسَانًا لَا نَنْسَى يَدك
فَبِهِ حَتَّى اَلْمَوْت.
ثُمَّ حَيَّتْنِي وَمَضَتْ لِسَبِيلِهَا فَسَأَلَتْ اَلْغُلَام عَنْ اَلسَّاعَة
اَلَّتِي استطيع أَنْ أَرَى أَبَاهُ فِيهَا فِي اَلْمَنْزِل فَقَالَ إِنَّك
تَرَاهُ فِي اَلصَّبَاح قَبْل ذَهَابه إِلَى اَلدِّيوَان فَانْصَرَفَتْ لِشَأْنِي
وَقَدْ أَضْمَرَتْ بَيْن جَنْبَيْ لَوْعَة مَا زَالَتْ تُقِيمنِي وَتُقْعِدنِي
وَتَذُود عَنْ عَيْنَيْ سَنَة الكرى حَتَّى اِنْقَضَى اَللَّيْل وَمَا كَادَ
يَنْقَضِي.
ثُمَّ عُدْت فِي صَبَاح اَلْيَوْم اَلثَّانِي لِأَرَى ذَلِكَ اَلصَّدِيق
اَلْقَدِيم اَلَّذِي كُنْت بِالْأَمْسِ أَسْعَد اَلنَّاس بِهِ وَلَا أَعْلَم مَا
مَصِير أَمْرِي مَعَهُ بَعْد ذَلِكَ وَفِي نَفْسِي مِنْ اَلْقَلَق وَالِاضْطِرَاب
مَا يَكُون فِي نَفْس اَلذَّاهِب إِلَى مَيْدَان سَبَّاق قَدْ خَاطَرَ فِيهِ
بِجَمِيع مَا يَمْتَلِك فَهُوَ لَا يَعْلَم أَيُكَوِّنُ بَعْد سَاعَة أَسْعَد
اَلنَّاس أَمْ أَشْقَاهُمْ ? اَلْآن عَرَفَتْ أَنَّ اَلْوُجُوه مَرَايَا
اَلنُّفُوس تُضِيء بِضِيَائِهَا وَتَظْلِم بِظَلَامِهَا فَقَدْ فَارَقَتْ
اَلرَّجُل مُنْذُ سَبْع سَنَوَات فَأَنْسَتْنِي اَلْأَيَّام صُورَته وَلَمْ يَبْقَ
فِي ذَاكِرَتِي مِنْهَا إِلَّا ذَلِكَ اَلضِّيَاء اَللَّامِع ضِيَاء اَلْفَضِيلَة
وَالشَّرَف اَلَّذِي كَانَ يَتَلَأْلَأ فِيهَا تَلَأْلُؤ نُور اَلشَّمْس
فِي
صَفْحَتهَا فِلْمَا رَايَته اَلْآن وَلَمْ أَرَ أَمَام عَيْنَيْ تِلْكَ الغلالة
اَلْبَيْضَاء اَلَّتِي كُنْت أَعْرِفهَا خَيْل إِلَيَّ أَنَّنِي أَرَى صُورَة
غَيْر اَلصُّورَة اَلْمَاضِيَة وَرَجُلًا غَيْر اَلَّذِي كُنْت أَعْرِفهُ مِنْ
قَبْل.
لَمْ أَرَ أَمَامِي ذَلِكَ اَلْفَتِيّ اَلْجَمِيل اَلْوَضَّاح اَلَّذِي كَانَ كُلّ
مَنْبَت شَعْرَة فِي وَجْهه فَمَا ضَاحَكَا تَمَوُّج فِيهِ اِبْتِسَامَة لَامِعَة
بَلْ رَايْت مَكَانه رَجُلًا شَقِيًّا مَنْكُوبًا قَدْ لَبِسَ اَلْهَرَم قَبْل
أَوَانه وَأُوَفِّي عَلَى اَلسِّتِّينَ قَبْل أَنْ يَسْلَخ اَلثَّلَاثِينَ
فَاسْتَرْخَى حَاجِبَاهُ وَثَقُلَتْ أَجْفَانه وَجَمَّدَتْ نَظَرَاته وَتَهَدُّل
عَارِضَاهُ وَتَجَعُّد جَبِينه اِسْتَشْرَفَ عَاتِقَاهُ وَهَوَى رَأْسه بَيْنهمَا
هُوِيَّة بَيْن عَاتِقِي اَلْأَحْدَب فَكَانَ أَوَّل مَا قَلَّتْ لَهُ لَقَدْ
تَغَيَّرَ فِيك كُلّ شَيْء يَا صَدِيقِي حَتَّى صُورَتك وَكَأَنَّمَا أَلَمَّ
بِمَا فِي نَفْسِي وَعَرَفَ أَنِّي قَدْ عَلِمْت مَنْ أَرْمِهِ كُلّ شَيْء
فَأَطْرَقَ بِرَأْسِهِ إِطْرَاق مَنْ يَرَى أَنَّ بَاطِن اَلْأَرْض خَيْر لَهُ
مِنْ ظَهْرهَا وَلَ يُقِلّ شَيْئًا فَدَنَوْت مِنْهُ وَضَعْت يَدَيْ عَلَى عَاتِقه
وَقُلْت لَهُ:
وَاَللَّه مَا ادري مَاذَا أَقُول لَك ? أأعظك وَقَدْ كُنْت وَاعِظِي بِالْأَمْسِ
وَنَجْم هُدَايَ اَلَّذِي أَسْتَنِير بِهِ فِي ظُلُمَات حَيَاتِي ? أَمْ أُرْشِدك
إِلَى مَا أَوْجَبَ اَللَّه عَلَيْك فِي نَفْسك وَفِي أَهْلك وَلَا أَعْرِف
شَيْئًا أَنْتَ تَجْهَلهُ وَلَا تَصِل يَدِي إِلَى عِبْرَة تُقَصِّر يَدك عَنْ
نِيلهَا أَمْ أَسْتَرْحِمك لِأَطْفَالِك اَلضُّعَفَاء وَزَوْجَتك اَلْبَائِسَة اَلْمِسْكِينَة
اَلَّتِي لَا عَضُد لَهَا فِي اَلْحَيَاة وَلَا مُعَيَّن سِوَاك وَأَنْتَ صَاحِب
اَلْقَلْب اَلرَّحِيم اَلَّذِي طَالَمَا خَفَقَ بالبعداء فَأَحْرَى أَنْ يُخْفِق
رَحْمَة بِالْأَقْرِبَاءِ!. . .
إِنَّ هَذِهِ اَلْحَيَاة اَلَّتِي تحياها يَا سَيِّدِي إِنَّمَا يَلْجَأ إِلَيْهَا
الهمل اَلْعَاطِلُونَ
اَلَّذِينَ
لَا يُصْلِحُونَ لِعَمَل مِنْ اَلْأَعْمَال لِيَتَوَارَوْا فِيهَا عَنْ أَعْيُن
اَلنَّاس حَيَاء وَخَجَلًا حَتَّى يَأْتِيهِمْ اَلْمَوْت فَيُنْقِذهُمْ عَنْ هارهم
وَشَقَائِهِمْ وَمَا أَنْتَ بِوَاحِد مِنْهُمْ! إِنَّك تَمْشِي يَا سَيِّدِي فِي
طَرِيق اَلْقَبْر وَمَا أَنْتَ بِنَاقِم عَلَى اَلدُّنْيَا وَلَا يَتَبَرَّم بِهَا
فَمَا رَغَّبَتْك فِي اَلْخُرُوج مِنْهَا خُرُوج اَلْيَائِس اَلْمُنْتَحِر
عَذَرْتُك لَوْ أَنَّ مَا رَبِحَتْ فِي حَيَاتك اَلثَّانِيَة يَقُوم لَك مَقَام
مَا خَسِرَتْ مِنْ حَيَاتك اَلْأُولَى وَلَكِنَّك تَعْلَم أَنَّك كُنْت غَنِيًّا
فَأَصْبَحَتْ فَقِيرًا وَصَحِيحًا فَأَصْبَحَتْ سَقِيمًا وَشَرِيفًا فَأَصْبَحَتْ
وَضِيعًا فَإِنْ كُنْت تَرَى بَعْد ذَلِكَ أَنَّك سَعِيد فَقَدْ خَلَتْ رُقْعَة
اَلْأَرْض مِنْ اَلْأَشْقِيَاء.
إِنَّ كُلّ مَا يَعْنِيك مِنْ حَيَاتك هَذِهِ أَنْ تَطْلُب فِيهَا اَلْمَوْت
فَاطْلُبْهُ بِالْإِغْوَاءِ سُمّ تَشَرُّبهَا دُفْعَة وَاحِدَة فَذَلِكَ خَيْر لَك
مِنْ هَذَا اَلْمَوْت اَلْمُتَقَطِّع اَلَّذِي يَكْثُر فِيهِ عَذَابك وَأَلَمك
وَتُعَظِّم فِيهِ آثَامك وَجَرَائِمك وَمَا يُعَاقِبك اَللَّه عَلَى اَلْأُخْرَى
بِأَكْثَر مِمَّا يُعَاقِبك عَلَى اَلْأُولَى.
حَسْبنَا يَا صِدِّيق مِنْ اَلشَّقَاء فِي هَذِهِ اَلْحَيَاة مَا يَأْتِينَا بِهِ
اَلْقَدْر فَلَا نُضَمّ إِلَيْهِ شَقَاء جَدِيدًا نَجْلِبهُ بِأَنْفُسِنَا
لِأَنْفُسِنَا فَهَاتِ يَدك وَعَاهَدَنِي عَلَى أَنْ تَكُون لِي مُنْذُ اَلْيَوْم
كَمَا كُنْت لِي بِالْأَمْسِ فَقَدْ كُنَّا سُعَدَاء قَبْل أَنْ نَفْتَرِق قُمْ
اِفْتَرَقْنَا فَشَقِينَا وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ قَدْ اِلْتَقَيْنَا فَلِنَعْش فِي
ظِلَال اَلْفَضِيلَة وَالشَّرَف سُعَدَاء كَمَا كُنَّا ثُمَّ مَدَدْت يَدَيْ
إِلَيْهِ فَرَاعَنِي أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّك يَده فَقُلْت لَهُ مَالِك لَا تَمُدّ
يَدك إِلَيَّ فاستعبر بَاكِيًا وَقَالَ لِأَنَّنِي لَا أُحِبّ أَنْ أَكُون
كَاذِبًا
وَلَا حَانِثًا قُلْت وَمَا يَمْنَعك مِنْ اَلْوَفَاء ? قَالَ يَمْنَعنِي مِنْهُ
أَنَّنِي رَجُل شَقِيّ لَاحَظَ لِي فِي سَعَادَة اَلسُّعَدَاء قُلْت قَدْ
اِسْتَطَعْت أَنْ تَكُون شَقِيًّا فَلِمَ لَا تَسْطِيع أَنْ تَكُون سَعِيدًا قَالَ
لِأَنَّ اَلسَّعَادَة سَمَاء وَالشَّقَاء أَرْض وَالنُّزُول إِلَى اَلْأَرْض
أَسْهَل مِنْ اَلصُّعُود إِلَى اَلسَّمَاء وَقَدْ زَلَّتْ قَدَمِي عَنْ حَافَّة
اَلْهُوَّة فَلَا قُدْرَة لِي عَلَى اَلِاسْتِمْسَاك حَتَّى أَبْلَغَ قرارتها
وَشُرِبَتْ أَوَّل جُرْعَة مِنْ جُرُعَات اَلْحَيَاة اَلْمَرِيرَة فَلَا بُدّ لِي
أَنْ أَشْرَبهَا حَتَّى ثُمَالَتهَا وَلَا شَيْء مِنْ اَلْأَشْيَاء يَسْتَطِيع
أَنْ يَقِف فِي سَبِيلِي إِلَّا شَيْء وَاحِد فَقَطْ هُوَ ان لَا أَكُون قَدْ
شَرِبَتْ اَلْكَأْس اَلْأُولَى قَبْل اَلْيَوْم وَمَا دُمْت قَدْ فَعَلْت فَلَا
حِيلَة لِي فِيمَا قُضِيَ اَللَّه قَلَتْ لَيْسَ بَيْنك وَبَيْن اَلنُّزُوع إِلَّا
عزمة صَادِقَة تعزمها فَإِذَا أَنْتِ مَنَّ اَلنَّاجِينَ قَالَ إِنَّ اَلْعَزِيمَة
أَثَر مِنْ آثَار اَلْإِرَادَة وَقَدْ أَصْبَحَتْ رَجُلًا مَغْلُوبًا عَلَى
أَمْرِي لَا إِرَادَة لِي وَلَا اِخْتِبَار فَدَعْنِي يَا صَدِيقِي واَلْقَضَاء
يَصْنَع بِي مَا يَشَاء وَابْكِ صَدِيقك اَلْقَدِيم مُنْذُ اَلْيَوْم إِنْ كُنْت
لَا تَرَى بَأْسًا فِي اَلْبُكَاء عَلَى اَلسَّاقِطِينَ اَلْمُذْنِبِينَ.
ثُمَّ اِنْفَجَرَ بَاكِيًا بِصَوْت عَالٍ وَتَرَكَنِي مَكَانِي دُون أَنْ
يُحْيِينِي بِكَلِمَة وَخَرَجَ هَائِمًا عَلَى وَجْهه لَا أَعْلَم أَيْنَ ذَهَبَ
فَانْصَرَفَتْ لِشَأْنِي وَبَيْن جَنْبِي مِنْ اَلْهَمّ وَالْكَمَد مَا لِلَّهِ
بِهِ عَلِيم.
لَمْ يَسْتَطِعْ رَئِيس اَلدِّيوَان أَنْ يَحْمِل نَدِيمه بِالْأَمْسِ زَمَنًا
طَوِيلًا فَأَقْصَاهُ عَنْ مَجْلِسه اِسْتِثْقَالًا لَهُ ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْ
وظيفه اِسْتِنْكَارًا لِعَمَلِهِ وَلَمْ تَذْرِف عَيْنه دَمْعَة وَاحِدَة عَلَى
مَنْظَر صَرِيعه اَلسَّاقِط بَيْن يَدَيْهِ وَلِمَ يَسْتَطِيع مَالِك اَلْبَيْت
اَلْجَدِيد أَنْ يُمْهِل فِيهِ اَلْمَالِك اَلْقَدِيم أَكْثَر مِنْ بِضْعَة شُهُور
ثُمَّ طَرَدَهُ مِنْهُ فَلَجَأَ هُوَ وَزَوْجَته
وَوَلَدَاهُ
إِلَى غُرْفَة حَقِيرَة فِي بَيْت قَدِيم فِي زُقَاق مَهْجُور فَأَصْبَحَتْ لَا
أَرَاهُ بَعْد ذَلِكَ إِلَّا ذَاهِبًا إِلَى اَلْحَانَة أَوْ عَائِدًا مِنْهَا
فَإِنْ رَأَيْته ذَاهِبًا زويت وَجْهِي عَنْهُ أَوْ عَائِدًا دَنَوْت مِنْهُ
فَمَسَحَتْ عَنْ وَجْهه مَا لَصِقَ بِهِ مِنْ اَلتُّرَاب أَوْ عَنْ جَبِينه مَا
سَالَ مِنْهُ مِنْ اَلدَّم ثُمَّ قُدْته إِلَى بَيْته.
وَهَكَذَا مَا زَالَتْ اَلْأَيَّام وَالْأَعْوَام تَأْخُذ مِنْ جِسْم اَلرَّجُل
وَمِنْ عَقْله حَتَّى أَصْبَحَ مَنْ يَرَاهُ يَرَى ظَلَّا مِنْ اَلظِّلَال
اَلْمُتَنَقِّلَة أَوْ حُلْمَا مِنْ اَلْأَحْلَام اَلسَّارِيَة يَمْشِي فِي
طَرِيقَة مِشْيَة الذاهل اَلْمَشْدُوه لَا يَكَاد يَشْعُر بِشَيْء مِمَّا حَوْله
وَلَا يَتَّقِي مَا يَعْتَرِض سَبِيله حَتَّى يُدَانِيه وَيَقِف حِينًا بَعْد حِين
فَيَدُور بِعَيْنَيْهِ حَوْل نَفْسه كَأَنَّمَا يُفَتِّش عَنْ شَيْء أَضَاعَهُ
وَلَيْسَ فِي يَده شَيْء يَضِيع أَوْ بِقَلْب نَظَره فِي أَثْوَابه وَمَا فِي
أَثْوَابه غَيْر الرقاع وَالْخُرُوق وَيَنْظُر إِلَى كُلّ وَجْه يُقَابِلهُ
نَظْرَة شزراء كَأَنَّمَا يَسْتَقْبِل عَدُوًّا بَغِيضًا وَلَيْسَ لَهُ عَدُوّ
وَلَا صِدِّيق وَرُبَّمَا تُعَلِّق بَعْض اَلصِّبْيَان بِعَاتِقِهِ فَدَفَعَهُمْ
عَنْهُ بِيَدِهِ دَفْعًا لَيِّنًا غَيْر آبِه وَلَا مُحْتَفِل كَمَا يَدْفَع
اَلنَّائِم اَلْمُسْتَغْرِق عَنْ
عَاتِقه يَد مُوقِظه حَتَّى إِذَا خَلَا جَوْفه مِنْ اَلْخَمْر وَهَدَأَتْ
سُورَتهَا فِي رَأْسه اِنْحَدَرَ إِلَى الحان فَلَا يَزَال يَشْرَب وَيَتَزَايَد
حَتَّى يَعُود إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَلَمْ يَزَلْ هَذَا شَأْنه حَتَّى حَدَثَتْ مُنْذُ بِضْعَة شُهُور اَلْحَادِثَة
اَلْآتِيَة عَجَزَتْ تِلْكَ اَلزَّوْجَة اَلْمِسْكِينَة أَنْ تَجِد سَبِيلًا إِلَى
اَلْقُوت وَأَبْكَاهَا أَنْ تَرَى وَلَدَاهَا وَابْنَتهَا بَاكِينَ بَيْن
يَدَيْهَا تَنْطِق دُمُوعهَا بِمَا يَصْمُت عَنْهُ لِسَانهمَا فَلَمْ تَرَ لَهَا
بُدًّا مِنْ أَنْ تَرْكَب تِلْكَ اَلسَّبِيل اَلَّتِي يَرْكَبهَا كُلّ مُضْطَرّ
عَدِيم فَأَرْسَلَتْهُمَا خَادِمَيْنِ فِي بَعْض اَلْبُيُوت يَقْتَاتَانِ فِيهَا
ويقيتانها فَكَانَتْ لَا تَرَاهُمَا إِلَّا قَلِيلًا وَلَا تَرَى
زَوْجهَا
إِلَّا فِي اَللَّيْلَة اَلَّتِي تَغْفُل فِيهَا عَنْهُ عُيُون اَلشُّرْطَة
وَقَلَّمَا تَغْفُل عَنْهُ فَأَصْبَحَتْ وَحِيدَة فِي غُرْفَتهَا لَا مُؤْنِس
لَهَا وَلَا مُعَيَّن إِلَّا جَارَة عَجُوز تَخْتَلِف إِلَيْهَا مِنْ حِين الى
حِين فَإِذَا فَارَقَتْهَا جَارَتْهَا وَخَلَتْ بِنَفْسِهَا ذَكَرَتْ تِلْكَ
اَلْأَيَّام اَلسَّعِيدَة اَلَّتِي كَانَتْ تَتَقَلَّب فِيهَا فِي أعطاف اَلْعَيْش
اَلنَّاعِم وَالنِّعْمَة اَلسَّابِغَة بَيْن زَوْج كَرِيم وَأَوْلَاد
كَالْكَوَاكِبِ اَلزَّهْر حُسْنًا وَبَهَاء ثُمَّ تَذْكُر كَيْفَ أَصْبَحَ
اَلسَّيِّد مُسْوَدًّا وَالْمَخْدُوم خَادِمًا وَالْعَزِيز اَلْكَرِيم ذَلِيلًا
مُهِينًا وَكَيْفَ اِنْتَثَرَ ذَلِكَ اَلْعَقْد بِالْإِغْوَاءِ اَلْمَنْظُوم
اَلَّذِي كَانَ حلية بَدِيعَة فِي جِيد اَلدَّهْر ثُمَّ اِسْتَحَالَ بَعْد انتثاره
إِلَى حصيات مَنْبُوذَات عَلَى سَطْح اَلْغَبْرَاء تَطَؤُهَا اَلنِّعَال
وَتَدُوسهَا اَلْحَوَافِر وَالْأَقْدَام فَتَبْكِي بُكَاء الواله فِي إِثْر قَوْم
ظاعنين حَتَّى تُتْلِف نَفْسهَا أَوْ تَكَاد عَلَى أَنَّهَا مَا أَضْمَرَتْ قَطُّ
فِي قَلْبهَا حِقْدًا لِذَلِكَ اَلْإِنْسَان اَلَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي شَقَائِهَا
وَشَقَاء وَلَدَيْهَا لَا حَدَّثْتهَا نَفْسهَا يَوْمًا مِنْ اَلْأَيَّام بمغاضبته
أَوْ هِجْرَانه لِأَنَّهَا اِمْرَأَة شَرِيفَة وَالْمَرْأَة اَلشَّرِيفَة لَا
تَغْدِر بِزَوْجِهَا اَلْمَنْكُوب بَلْ كَانَتْ تَنْظُر إِلَيْهِ نَظْرَة اَلْأُمّ
اَلْحَنُون إِلَى طِفْلهَا اَلصَّغِير فَتَرْحَمهُ وَتَعْطِف عَلَيْهِ وَتَسْهَر
بِجَانِبِهِ إِنْ كَانَ مَرِيضًا وتأسو جِرَاحه إِنَّ عَاد جَرِيحًا وَرُبَّمَا
طَرَدَهُ اَلْحِمَار فِي بَعْض لَيَالِيه مِنْ حَانَة حِينَمَا لَا يَجِد مَعَهُ
ثَمَن اَلشَّرَاب فَيَعُود إِلَيَّ بَيْته ثَائِرًا مهتاجا يَطْلُب اَلشَّرَاب
طَلَبًا شَدِيدًا فَلَا تَجِد بُدًّا مِنْ أَنْ تُعْطِيه نَفَقَة طَعَامهَا أَوْ
تَبْتَاع لَهُ مِنْ اَلْخَمْر مَا يَسْكُن بِهِ نَفْسه رَحْمَة بِهِ وابقاء عَلَى
تِلْكَ اَلْبَقِيَّة اَلْبَاقِيَة مِنْ عَقْله.
وَكَأَنَّ اَلدَّهْر لَمْ يَكُفّهُ مَا وَضَعَ عَلَى عَاتِقهَا مِنْ اَلْأَثْقَال
حَتَّى أَضَافَ إِلَيْهَا ثِقْلًا جَدِيدًا فَقَدْ شَعَرَتْ فِي يَوْم مِنْ
أَيَّامهَا بِنَسَمَة نَتَحَرَّك فِي أَحْشَائِهَا فَعَلِمَتْ أَنَّهَا حَاوَلَ
وَأَنَّهَا سَتَأْتِي إِلَى دَار اَلشَّقَاء بِشَقَاء جَدِيد فَهَتَفَتْ صَارِخَة
رَحْمَتك اَللَّهُمَّ فَقْد اِمْتَلَأَتْ اَلْكَأْس حَتَّى مَا تَسَع قَطْرَة
وَاحِدَة وَمَا زَالَتْ تُكَابِد مِنْ آلَام اَلْحَمْل
مَا يَجِب
أَنْ تُكَابِدهُ اِمْرَأَة مَرِيضَة مَنْكُوبَة حَتَّى جَاءَتْ سَاعَة وَضْعهَا
فَلَمْ يَحْضُرهَا أَحَد الا جَارَتهَا اَلْعَجُوز فَأَعَانَهَا اَللَّه عَلَى
أَمْرهَا فَوَضَعَتْ ثُمَّ مَرِضَتْ بَعْد ذَلِكَ بِحُمَّى اَلنِّفَاس مَرَضًا
شَدِيدًا فَلَمْ تُجْدِ طَبِيبًا يَتَصَدَّق عَلَيْهَا بِعِلَاجِهَا لِأَنَّ
اَلْبَلَد اَلَّذِي لَا يَسْتَحِي أَطِبَّاؤُهُ أَنْ يُطَالِبُوا أَهْل اَلْمَرِيض
بَعْد مَوْته بِأُجْرَة عِلَاجهمْ اَلَّذِي قَتَلَهُ لَا يُمْكِن أَنْ يُوجَد
فِيهَا طَبِيب مُحْسِن أَوْ مُتَصَدِّق فَمَا زَالَ اَلْمَوْت يَدْنُو مِنْهَا
رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى ادركتها رَحْمَة اَللَّه فَوَافَاهَا أَجْلهَا فِي
سَاعَة لَا يُوجَد فِيهَا بِجَانِبِهَا غَيْر طِفْلَتهَا اَلصَّغِيرَة عَالِقَة
بِثَدْيهَا.
فِي هَذِهِ اَلسَّاعَة دَخْل اَلرَّجُل ثَائِرًا مهتاجا يَطْلُب اَلشَّرَاب
وَيُفَتِّش عَنْ زَوْجَته لِتَأْتِيَ لَهُ مِنْهُ بِمَا يُرِيد فَدَار بِعَيْنِهِ
فِي أَنْحَاء اَلْغُرْفَة حَتَّى رَآهَا مُمَدَّدَة عَلَى حَصِيرهَا وزاى
اِبْنَتهَا تَبْكِي بِجَانِيهَا فَظَنَّهَا نَائِمَة فَدَنَا مِنْهَا وَدَفْع
اَلطِّفْلَة بَعِيدًا عَنْهَا وَأَخْذ يُحَرِّكهَا تَحْرِيكًا شَدِيدًا فَلَمْ
يُشْعِر بِحَرَكَة فَرَابَهُ اَلْأَمْر وَأَحَسَّ بِالْإِغْوَاءِ تَتَمَشَّى فِي
أَعْضَائِهِ حَتَّى أَصَابَتْ قَلْبه فَبَدَأَ صَوَابه يَعُود إِلَيْهِ شَيْئًا
فَشَيْئًا فأكب عَلَيْهَا يُحَدِّث فِي وَجْههَا تَحْدِيقًا شَدِيدًا وَيَزْحَف
نَحْوهَا رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى رَأَى شَبَح اَلْمَوْت يُحَدِّق إِلَيْهِ
مَنْ عَيْنهَا اَلشَّاخِصَتَيْنِ اَلْجَامِدَتَيْنِ فَتَرَاجَعَ خَوْفًا وَذُعْرًا
فَوَطِئَ فِي تَرَاجُعه صَدْر اِبْنَته فَأَنْتَ أَنَّة مُؤْلِمَة لَمْ تَتَحَرَّك
بَعْدهَا حَرَكَة وَاحِدَة فَصَرَخَ صَرْخَة شَدِيدَة وَقَالَ اشقاءاه وَخَرَجَ هَائِمًا
عَلَى وَجْهه يَعْدُو فِي اَلطُّرُق وَيَضْرِب رَأْسه بِالْعُمَدِ وَالْجُدْرَان
وَيَدْفَع كُلّ مَا يَجِد فِي طَرِيقه مِنْ إِنْسَان أَوْ حَيَوَان وَيَصِيح
اِبْنَتَيْ زَوْجَتِي هَلُمُّوا إِلَيَّ ادركوني حتي أَعْيَا فَسَقَطَ عَلَى
اَلْأَرْض وَأَخَذَ يَفْحَص اَلتُّرَاب بِرِجْلَيْهِ وَيَئِنّ أَنِين اَلذَّبِيح
وَالنَّاس مِنْ حَوْله آسِفُونَ عَلَيْهِ لأ لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ بَلْ
لِأَنَّهُمْ قَرَءُوا فِي وَجْهه آيَات شَقَائِهِ.
فَكَانَتْ
تِلْكَ اَللَّحْظَة اَلْقَصِيرَة اَلَّتِي استفاق فِيهَا مِنْ ذُهُوله اَلطَّوِيل
سَبَبًا فِي ضَيَاع مَا بَقِيَ مِنْ عَقْله.
وَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَة أَوْ سَاعَتَانِ حَتَّى أَصْبَحَ مُقَيَّدًا مَغُولًا
فِي قَاعَة مِنْ قَاعَات البيمارستان فوا بِالْإِغْوَاءِ لَهُ وَلِزَوْجَتِهِ
اَلشَّهِيدَة وَلِطِفْلَتِهِ اَلصَّرِيعَة وَلِأَوْلَادِهِ اَلْمُشَرَّدِينَ
اَلْبُؤَسَاء.
النص روعةة
ردحذف